مقدمة الوحدة
تقرير نوع العلاقة بين الجماعة المسلمة وأهل الكتاب يمضي هذا الدرس في بيان حال أهل الكتاب من اليهود والنصارى وكشف الانحراف فيما يعتقدون وكشف السوء فيما يصنعون ; في تاريخهم كله وبخاصة اليهود كما يمضي في تقرير نوع العلاقة بنيهم وبين الرسول ص والجماعة المسلمة ; وواجب الرسول ص في تعامله معهم وواجب المسلمين ذلك إلى تقرير حقائق أساسية ضخمة في أصول التصور الاعتقادي ; وفي أصول النشاط الحركي للجماعة المسلمة تجاه المعتقدات المنحرفة وتجاه المنحرفين لقد نادى الله سبحانه الرسول ص وكلفه تبليغ ما أنزل إليه من ربه كل ما أنزل إليه لا يستبقي منه شيئا ولا يؤخر منه شيئا مراعاة للظروف والملابسات أو تجنبا للاصطدام بأهواء الناس وواقع المجتمع وإن لم يفعل فما يكون قد بلغ ومن هذا الذي كلف الرسول ص تبليغه أن يجابه أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم هكذا قاطعة جازمة صريحة جاهرة وأن يعلن كذلك كفر اليهود بنقضهم الميثاق وقتلهم الأنبياء وكفر النصارى بقولهم إن الله هو المسيح عيسى بن مريم وقولهم إن الله ثالث ثلاثة كما يعلن أن المسيح عليه السلام أنذر بني إسرائيل عاقبة الشرك وتحريم الله الجنة على المشركين وأن بني إسرائيل لعنوا على لسان داود وعيسى بن مريم بعصيانهم وعدوانهم وينتهي الدرس بكشف موقف أهل الكتاب من مظاهرة المشركين على المسلمين وإعلان أن هذا ناشيء من عدم إيمانهم بالله والنبي وأنهم مدعوون إلى الإيمان بما جاء به محمد ص وإلا فما هم بالمؤمنين ونأخذ بعد هذا الإجمال في مواجهة النصوص بالتفصيل
الدرس الأول وجوب التبليغ وبيان المؤمن من الكافر
يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون إنه الأمر الجازم الحاسم للرسول ص أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه كاملا وألا يجعل لأي اعتبار من الاعتبارات حسابا وهو يصدع بكلمة الحق هذا وإلا فما بلغ وما أدى وما قام بواجب الرسالة والله يتولى حمايته وعصمته من الناس ومن كان الله له عاصما فماذا يملك له العباد المهازيل إن كلمة الحق في العقيدة لا ينبغي أن تجمجم إنها يجب أن تبلغ كاملة فاصلة ; وليقل من شاء من المعارضين لها كيف شاء ; وليفعل من شاء من أعدائها ما يفعل ; فإن كلمة الحق في العقيدة لا تملق الأهواء ; ولا تراعي مواقع الرغبات ; إنما تراعي أن تصدع حتى تصل إلى القلوب في قوة وفي نفاذ وكلمة الحق في العقيدة حين تصدع تصل إلى مكامن القلوب التي يكمن فيها الاستعداد للهدى وحين تجمجم لا تلين لها القلوب التي لا استعداد فيها للإيمان ; وهي القلوب التي قد يطمع صاحب الدعوة في أن تستجيب له لو داهنها في بعض الحقيقة إن الله لا يهدي القوم الكافرين وإذن فلتكن كلمة الحق حاسمة فاصلة كاملة شاملة والهدى والضلال إنما مناطهما استعداد القلوب وتفتحها لا المداهنة ولا الملاطفة على حساب كلمة الحق أو في كلمة الحق إن القوة والحسم في إلقاء كلمة الحق في العقيدة لا يعني الخشونة والفظاظة ; فقد أمر الله رسوله ص أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة وليس هنالك تعارض ولا اختلاف بين التوجيهات القرآنية المتعددة والحكمة والموعظة الحسنة لا تجافيان الحسم والفصل في بيان كلمة الحق فالوسيلة والطريقة إلى التبليغ شيء غير مادة التبليغ وموضوعه والمطلوب هو عدم المداهنة في بيان كلمة الحق كاملة في العقيدة وعدم اللقاء في منتصف الطريق في الحقيقة ذاتها فالحقيقة الاعتقادية ليس فيها أنصاف حلول ومنذ الأيام الأولى للدعوة كان الرسول ص يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة في طريقة التبليغ وكان يفاصل مفاصلة كاملة في العقيدة فكان مأمورا أن يقول يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون فيصفهم بصفتهم ; ويفاصلهم في الأمر ولا يقبل أنصاف الحلول التي يعرضونها عليه ولا يدهن فيدهنون كما يودون ولا يقول لهم إنه لا يطلب إليهم إلا تعديلات خفيفة فيما هم عليه بل يقول لهم إنهم على الباطل المحض وإنه على الحق الكامل فيصدع بكلمة الحق عالية كاملة فاصلة في أسلوب لا خشونة فيه ولا فظاظة وهذا النداء وهذا التكليف في هذه السورة يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين يبدو من السياق قبل هذا النداء وبعده أن المقصود به مباشرة هو مواجهة أهل الكتاب بحقيقة ما هم عليه وبحقيقة صفتهم التي يستحقونها بما هم عليه ومواجهتهم بأنهم ليسوا على شيء ليسوا على شيء من الدين ولا العقيدة ولا الإيمان ذلك أنهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ومن ثم فلا شيء مما يدعونه لأنفسهم من أنهم أهل كتاب وأصحاب عقيدة وأتباع دين قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وحينما كلف الرسول ص أن يواجههم بأنهم ليسوا على شيء من الدين والعقيدة والإيمان بل ليسوا على شيء أصلا يرتكن عليه حينما كلف الرسول ص بمواجهتهم هذه المواجهة الحاسمة الفاصلة كانوا يتلون كتبهم ; وكانوا يتخذون لأنفسهم صفة اليهودية أو النصرانية ; وكانوا يقولون إنهم مؤمنون ولكن التبليغ الذي كلف رسول الله ص أن يواجههم به لم يعترف لهم بشيء أصلا الا مما كانوا يزعمون لأنفسهم لأن الدين وليس كلمات تقال باللسان ; وليس كتبا تقرأ وترتل ; وليس صفة تورث وتدعى إنما الدين منهج حياة منهج يشمل العقيدة المستسرة في الضمير والعبادة الممثلة في الشعائر والعبادة التي تتمثل في إقامة نظام الحياة كلها على أساس هذا المنهج ولما لم يكن أهل الكتاب يقيمون الدين على قواعده هذه فقد كلف الرسول ص أن يواجههم بأنهم ليسوا على دين ; وليسوا على شيء أصلا من هذا القبيل وإقامة التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم مقتضاها الأول الدخول في دين الله الذي جاء به محمد ص فقد أخذ الله عليهم الميثاق أن يؤمنوا بكل رسول ويعزروه وينصروه وصفة محمد وقومه عندهم في التوراة وعندهم في الإنجيل كما أخبر الله وهو أصدق القائلين فهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم سواء كان المقصود بقوله وما أنزل إليهم من ربهم هو القرآن كما يقول بعض المفسرين أو هو الكتب الأخرى التي أنزلت لهم كزبور داود نقول إنهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم إلا أن يدخلوا في الدين الجديد الذي يصدق ما بين يديهم ويهيمن عليه فهم ليسوا على شيء بشهادة الله سبحانه حتى يدخلوا في الدين الاخير والرسول ص قد كلف أن يواجههم بهذا القرار الإلهي في شأنهم ; وأن يبلغهم حقيقة صفتهم وموقفهم ; وإلا فما بلغ رسالة ربه ويا له من تهديد وكان الله سبحانه يعلم أن مواجهتهم بهذه الحقيقة الحاسمة وبهذه الكلمة الفاصلة ستؤدي إلى أن تزيد كثيرا منهم طغيانا وكفرا وعنادا ولجاجا ولكن هذا لم يمنع من أمر الرسول ص أن يواجههم بها ; وألا يأسى على ما يصيبهم من الكفر والطغيان والظلال والشرود بسبب مواجهتهم بها ; لأن حكمته سبحانه تقتضي أن يصدع بكلمة الحق ; وأن تترتب عليها آثارها في نفوس الخلق فيهتدي من يهتدي عن بينة ويضل من يضل عن بينة ويهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين وكان الله سبحانه يرسم للداعية بهذه التوجيهات منهج الدعوة ; ويطلعه على حكمة الله في هذا المنهج ; ويسلي قلبه عما يصيب الذين لا يهتدون إذا هاجتهم كلمة الحق فازدادوا طغيانا وكفرا ; فهم يستحقون هذا المصير البائس ; لأن قلوبهم لا تطيق كلمة الحق ; ولا خير في أعماقها ولا صدق فمن حكمة الله أن تواجه بكلمة الحق ; ليظهر ما كمن فيها وما بطن ; ولتجهر بالطغيان والكفر ; ولتستحق جزاء الطغاة والكافرين ونعود إلى قضية الولاء والتناصر والتعاون بين المسلمين وأهل الكتاب على ضوء هذا التبليغ الذي كلفه رسول الله ص وعلى ضوء نتائجه التي قدر الله أن تكون في زيادة الكثيرين منهم طغيانا وكفرا فماذا نجد نجد أن الله سبحانه يقرر أن أهل الكتاب ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم وحتى يدخلوا في الدين الأخير تبعا لهذه الإقامة كما هو بديهي من دعوتهم إلى الإيمان بالله والنبي في المواضع الأخرى المتعددة فهم إذن لم يعودوا على دين الله ولم يعودوا أهل دين يقبله الله ونجد أن مواجهتهم بهذه الحقيقة قد علم الله أنها ستزيد الكثيرين منهم طغيانا وكفرا ومع هذا فقد أمر رسوله أن يواجههم بها دون مواربة ودون أسى على ما سيصيب الكثيرين منها فإذا نحن اعتبرنا كلمة الله في هذه القضية هي كلمة الفصل كما هو الحق والواقع لم يبق هنالك موضع لاعتبار أهل الكتاب أهل دين يستطيع المسلم أن يتناصر معهم فيه للوقوف في وجه الإلحاد والملحدين ; كما ينادي بعض المخدوعين وبعض الخادعين فأهل الكتاب لم يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ; حتى يعتبرهم المسلم على شيء وليس للمسلم أن يقرر غير ما قرره الله وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم وكلمة الله باقية لا تغيرها الملابسات والظروف وإذا نحن اعتبرنا كلمة الله هي كلمة الفصل كما هو الحق والواقع لم يكن لنا أن نحسب حسابا لأثر المواجهة لأهل الكتاب بهذه الحقيقة في هياجهم علينا وفي اشتداد حربهم لنا ولم يكن لنا أن نحاول كسب مودتهم بالاعتراف لهم بأنهم على دين نرضاه منهم ونقرهم عليه ونتناصر نحن وإياهم لدفع الإلحاد عنه كما ندفع الإلحاد عن ديننا الذي هو الدين الوحيد الذي يقبلة الله من الناس إن الله سبحانه لا يوجهنا هذا التوجيه ولا يقبل منا هذا الاعتراف ولا يغفر لنا هذا التناصر ولا التصور الذي ينبعث التناصر منه لأننا حينئذ نقرر لأنفسنا غير ما يقرر ; ونختار في أمرنا غير ما يختار ; ونعترف بعقائد محرفة أنها دين إلهي يجتمع معنا في آصرة الدين الإلهي والله يقول إنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم وهم لا يفعلون والذين يقولون إنهم مسلمون ولا يقيمون ما أنزل إليهم من ربهم هم كأهل الكتاب هؤلاء ليسوا على شيء كذلك فهذه كلمة الله عن أهل أي كتاب لا يقيمونه في نفوسهم وفي حياتهم سواء والذي يريد أن يكون مسلما يجب عليه بعد إقامة كتاب الله في نفسه وفي حياته أن يواجه الذين لا يقيمونه بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموه وأن دعواهم أنهم على دين يردها عليهم رب الدين فالمفاصلة في هذا الأمر واجبة ; ودعوتهم إلى الإسلام من جديد هي واجب المسلم الذي أقام كتاب الله في نفسه وفي حياته فدعوى الإسلام باللسان أو بالوراثة دعوى لا تفيد إسلاما ولا تحقق إيمانا ولا تعطي صاحبها صفة التدين بدين الله في أي ملة وفي أي زمان وبعد أن يستجيب هؤلاء أو أولئك ; ويقيموا كتاب الله في حياتهم ; يملك المسلم أن يتناصر معهم في دفع غائلة الإلحاد والملحدين عن الدين وعن المتدينين فأما قبل ذلك فهو عبث ; وهو تمييع يقوم به خادع أو مخدوع إن دين الله ليس راية ولا شعارا ولا وراثة إن دين الله حقيقة تتمثل في الضمير وفي الحياة سواء تتمثل في عقيدة تعمر القلب وشعائر تقام للتعبد ونظام يصرف الحياة ولا يقوم دين الله إلا في هذا الكل المتكامل ; ولا يكون الناس على دين الله إلا وهذا الكل المتكامل متمثل في نفوسهم وفي حياتهم وكل اعتبار غير هذا الاعتبار تمييع للعقيدة وخداع للضمير ; لا يقدم عليه مسلم نظيف الضمير وعلى المسلم أن يجهر بهذه الحقيقة ; ويفاصل الناس كلهم على أساسها ; ولا عليه مما ينشأ عن هذه المفاصلة والله هو العاصم والله لا يهدي القوم الكافرين وصاحب الدعوة لا يكون قد بلغ عن الله ; ولا يكون قد أقام الحجة لله على الناس إلا إذا أبلغهم حقيقة الدعوة كاملة ; ووصف لهم ما هم عليه كما هو في حقيقته بلا مجاملة ولا مداهنة فهو قد يؤذيهم إن لم يبين لهم أنهم ليسوا على شيء وأن ما هم عليه باطل كله من أساسه وأنه هو يدعوهم إلى شيء آخر تماما غير ما هم عليه يدعوهم إلى نقلة بعيدة ورحلة طويلة وتغيير أساسي في تصوراتهم وفي أوضاعهم وفي نظامهم وفي أخلاقهم فالناس يجب أن يعرفوا من الداعية أين هم من الحق الذي يدعوهم إليه ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وحين يجمجم صاحب الدعوة ويتمتم ولا يبين عن الفارق الأساسي بين واقع الناس من الباطل وبين ما يدعوهم إليه من الحق وعن الفاصل الحاسم بين حقه وباطلهم حين يفعل صاحب الدعوة هذا مراعاة للظروف والملابسات وحذرا من مواجهة واقع الناس الذي يملأ عليهم حياتهم وأفكارهم وتصوراتهم فإنه يكون قد خدعهم وآذاهم لأنه لم يعرفهم حقيقة المطلوب منهم كله وذلك فوق أنه يكون لم يبلغ ما كلفه الله تبليغه إن التلطف في دعوة الناس إلى الله ينبغي أن يكون في الأسلوب الذي يبلغ به الداعية لا في الحقيقة التي يبلغهم إياها إن الحقيقة يجب إن تبلغ إليهم كاملة أما الأسلوب فيتبع المقتضيات القائمة ويرتكز على قاعدة الحكمة والموعظة الحسنة ولقد ينظر بعضنا اليوم مثلا فيرى أن أهل الكتاب هم أصحاب الكثرة العددية وأصحاب القوة المادية وينظر فيرى أصحاب الوثنيات المختلفة يعدون بمئات الملايين في الأرض وهم أصحاب كلمة مسموعة في الشئون الدولية وينظر فيرى أصحاب المذاهب المادية أصحاب أعداد ضخمة وأصحاب قوة مدمرة وينظر فيرى الذين يقولون إنهم مسلمون ليسوا على شيء لأنهم لا يقيمون كتاب الله المنزل إليهم فيتعاظمه الامر ويستكثر أن يواجه هذه البشرية الضالة كلها بكلمة الحق الفاصلة ويرى عدم الجدوى في أن يبلغ الجميع أنهم ليسوا على شيء وأن يبين لهم الدين الحق وليس هذا هو الطريق إن الجاهلية هي الجاهلية ولو عمت أهل الأرض جميعا وواقع الناس كله ليس بشيء ما لم يقم على دين الله الحق وواجب صاحب الدعوة هو واجبة لا تغيره كثرة الضلال ; ولا ضخامة الباطل فالباطل ركام وكما بدأت الدعوة الأولى بتبليغ أهل الأرض قاطبة أنهم ليسوا على شيء كذلك ينبغي أن تستأنف وقد استدار الزمان كهيئة يوم بعث الله رسوله ص وناداه يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم
الدرس الثاني الدين المقبول عند الله
وينتهي هذا المقطع بالبيان الأخير عن الدين الذي يقبله الله من الناس أيا كان وصفهم وعنوانهم وما كانوا عليه قبل بعثة النبي الأخير ; والذي يلتقي عليه المتفرقون في الملل والنحل فيما غبر من التاريخ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين آمنوا هم المسلمون والذين هادوا هم اليهود والصابئون هم في الغالب تلك الفئة التي تركت عبادة الأوثان قبل بعثة الرسول ص وعبدت الله وحده على غير نحلة معينة ومنهم من العرب أفراد معدودون والنصارى هم أتباع المسيح عليه السلام والآية تقرر أنه أيا كانت النحلة فإن من آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا ومفهوم ضمنا في هذا الموضع وتصريحا في مواضع أخرى أنهم فعلوا ذلك على حساب ما جاء به الرسول الأخير فقد نجوا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ولا عليهم مما كانوا فيه قبل ذلك ; ولا مما يحملون من أسماء وعنوانات فالمهم هو العنوان الأخير وهذا الذي نقرر أنه مفهوم من الآية ضمنا يعتبر من المعلوم من الدين بالضرورة فمن بديهيات هذه العقيدة أن محمدا ص هو خاتم النبيين وأنه أرسل إلى البشر كافة وأن الناس جميعا على اختلاف مللهم ونحلهم وأديانهم واعتقاداتهم وأجناسهم وأوطانهم مدعوون إلى الإيمان بما جاء به وفق ما جاء به ; في عمومه وفي تفصيلاته وأن من لا يؤمن به رسولا ولا يؤمن بما جاء به إجمالا وتفصيلا فهو ضال لا يقبل الله منه ما كان عليه من دين قبل هذا الدين ولا يدخل في مضمون قوله تعالى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وهذه هي الحقيقة الأساسية المعلومة من الدين بالضرورة التي لا يجوز للمسلم الحق أن يجمجم فيها أو يتمتم ; أمام ضخامة الواقع الجاهلي الذي تعيش فيه البشرية والتي لا يجوز للمسلم أن يغفلها في إقامة علاقاته بأهل الأرض قاطبة ; من أصحاب الملل والنحل فلا يحمله ضغط الواقع الجاهلي على اعتبار أحد من أصحاب هذه الملل والنحل على دين يرضاه الله ; ويصلح أن يتناصر معه فيه ويتولاه إنما الله هو الولي ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون مهما تكن ظواهر الأمور ومن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا على أساس هذا الدين الذي هو وحده الدين فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون لا خوف عليهم في الدنيا ولا في الآخرة لا خوف عليهم من قوى الباطل والجاهلية المتراكمة ولا خوف عليهم من أنفسهم المؤمنة العاملة الصالحة ولا هم يحزنون
الدرس الثالث كفر اليهود وقتلهم الأنبياء ونقضهم الميثاق
بعد ذلك يأخذ السياق في عرض طرف من تاريخ بني إسرائيل اليهود يتجلى فيه كيف أنهم ليسوا على شيء ; ويتبين معه ضرورة تبليغهم الدعوة ومخاطبتهم بالإسلام ليأووا منه إلى دين الله ثم لتتبين حقيقتهم التي لم تتغير ; وتنكشف للمسلمين هذه الحقيقة فتسقط في أعينهم قيمة يهود وتنفر قلوبهم من الولاء لهم والتناصر معهم وهم على مثل هذه الحال في أمر الحق والدين لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوي أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون وحسبوا الا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعلمون إنه تاريخ قديم فليس موقفهم من رسول الإسلام ص بالأول ولا بالأخير إنهم مردوا على العصيان والإعراض ; ومردوا على النكول عن ميثاق الله ; ومردوا على اتخاذ هواهم إلههم لا دين الله ولا هدى الرسل ; ومردوا على الإثم والعدوان على دعاة الحق وحملة دعوة الله لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون وسجل بني إسرائيل مع أنبيائهم حافل بالتكذيب والإعراض ; حافل بالقتل والاعتداء حافل بتحكيم الشهوات والأهواء ولعله من أجل ذلك قص الله تاريخ بني إسرائيل على الأمة المسلمة في تفصيل وتطويل لعلها تتقي أن تكون كبني إسرائيل ; ولعلها تحذر مزالق الطريق أو لعل الواعين منه الموصولين بالله يدركون هذه المزالق ; أو يتأسون بأنبياء بني إسرائيل حين يصادفون ما صادفوا وأجيال من ذراري المسلمين تنتهي إلى ما انتهى إليه بنو إسرائيل حين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم ; فتحكم الهوى ; وترفض الهدى وتكذب فريقا من الدعاة إلى الحق وتقتل فريقا ; كما صنع بغاة بني إسرائيل في تاريخهم الطويل لقد صنع بنو إسرائيل تلك الآثام كلها ; وهم يحسبون أن الله لن يفتنهم بالبلاء ولن يأخذهم بالعقاب حسبوا هذا الحسبان غفلة منهم عن سنة الله ; وغرورا منهم بأنهم شعب الله المختار وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموًا طمس الله على أبصارهم فلا يفقهون مما يرون شيئا ; وطمس على مسامعهم فلا يفيدون مما يسمعون شيئا ثم تاب الله عليهم وأدركهم برحمته فلم يرعووا ولم ينتفعوا ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون وهو مجازيهم بما يراه ويعلمه من أمرهم وما هم بمفلتين ويكفي أن يعرف الذين آمنوا هذا التاريخ القديم عن يهود وهذا الواقع الجديد ; لتنفر قلوبهم المؤمنة من ولائهم كما نفر قلب عبادة بن الصامت ; فلا يتولاهم إلا المنافقون من أمثال عبدالله بن أبى بن سلول
الدرس الرابع بيان كفر النصارى في تأليه عيسى بن مريم ونقض ذلك
ذلك شأن اليهود من أهل الكتاب فأما شأن النصارى فيبينه السياق القرآني في حسم وتوكيد يتمشيان مع طبيعة السورة ; وطبيعة الموقف الذي تعالجه ولقد سبق في سياق السورة وصف الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم بالكفر فالآن يكرر هذا الوصف سواء لمن قالوا إن الله ثالث ثلاثة ومن قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم مع ذكر شهادة عيسى عليه السلام عليهم بالكفر وتحذيره لهم من وصف أحد بالألوهية إلا الله سبحانه واعترافه بأن الله هو ربه وربهم على السواء ثم تحذير الله لهم في النهاية من المضي فيما هم عليه من الكفر بسبب هذه المقولات التي لا يقول بها المؤمنون بالله وبدينه الصحيح لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ولقد سبق أن بينا باختصار كيف ومتى تسربت هذه المقولات المنحرفة من المجامع إلى العقيدة النصرانية التي جاء بها عيسى عليه السلام رسولا من عند الله ; كإخوانه الرسل ; الذين جاءوا بكلمة التوحيد خالصة ; لا يشوبها ظل من الشرك ; لأن الرسالات كلها جاءت لتقرير كلمة التوحيد في الأرض وإبطال كلمة الشرك فالآن نذكر باختصار كذلك ما إنتهت إليه تلك المجامع من الاتفاق على التثليث وألوهية المسيح والخلاف فيما بينها بعد ذلك على النحو الذي أسلفناه جاء في كتاب سوسنة سليمان لنوفل بن نعمة الله بن جرجس النصراني أن عقيدة النصارى التي لا تختلف بالنسبة لها الكنائس وهي أصل الدستور الذي بينه المجمع النيقاوي هي الإيمان بإله واحد آب واحد ضابط الكل خالق السماوات والأرض كل ما يرى وما لا يرى وبرب واحد يسوع الابن الوحيد المولود من الآب قبل الدهور من نور الله إله حق من إله حق مولود غير مخلوق مساو للأب في الجوهر الذي به كان كل شيء والذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خطايانا نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء تأنس وصلب عنا على عهد بيلاطس وتألم وقبر وقام من الأموات في اليوم الثالث على ما في الكتب وصعد إلى السماء وجلس على يمين الرب وسيأتي بمجد ليدين الأحياء والأموات ولا فناء لملكه والإيمان بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب الذي هو مع الابن يسجد له ويمجده الناطق بالأنبياء وقال الدكتور بوست في تاريخ الكتاب المقدس طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الله الآب والله الابن والله الروح القدس فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن وإلى الابن الفداء وإلى الروح القدس التطهير ونظرا لصعوبة تصور الأقانيم الثلاثة في واحد وصعوبة الجمع بين التوحيد والتثليث فإن الكتاب النصارى عن اللاهوت حاولوا تأجيل النظر العقلي في هذه القضية التي يرفضها العقل ابتداء ومن ذلك ما كتبه القس بوطر في رسالة الأصول والفروع حيث يقول قد فهمنا ذلك على قدر طاقة عقولنا ونرجو ان نفهمه فهما أكثر جلاء في المستقبل حين يكشف لنا الحجاب عن كل ما في السماوات وما في الأرض وأما في الوقت الحاضر ففي القدر الذي فهمناه كفاية والله سبحانه يقول إن هذه المقولات كلها كفر وهي تتضمن كما رأينا القول بألوهية المسيح عليه السلام ; والقول بأن الله ثالث ثلاثة وليس بعد قول الله سبحانه قول والله يقول الحق وهو يهدي السبيل لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد رحم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار وهكذا حذرهم المسيح عليه السلام فلم يحذروا ووقعوا بعد وفاته عنهم فيما حذرهم من الوقوع فيه وما أنذرهم عليه الحرمان من الجنة والانتهاء إلى النار ونسوا قول المسيح عليه السلام يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم حيث أعلن لهم أنه هو وهم في العبودية سواء لربوبية الله الواحد الذي ليس له من شركاء ويستوفي القرآن الحكم على سائر مقولاتهم الكافرة لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ويقرر الحقيقة التي تقوم عليها كل عقيدة جاء بها رسول من عند الله وما من إله إلا إله واحد ويهددهم عاقبة الكفر الذي ينطقون به ويعتقدونه وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم والكافرون هم الذين لا ينتهون عن هذه المقولات التي حكم عليها الله بالكفر الصراح ثم أردف التهديد والوعيد بالتحضيض والترغيب أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ليبقي لهم باب التوبة مفتوحا ; وليطمعهم في مغفرة الله ورحمته قبل فوات الآوان ثم واجههم بالمنطق الواقعي القويم لعله يرد فطرتهم إلى الإدراك السليم مع التعجيب من أمرهم في الانصراف عن هذا المنطق بعد البيان والإيضاح ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون وأكل الطعام مسألة واقعية في حياة المسيح عليه السلام وأمه الصديقة وهي خصيصة من خصائص الأحياء الحادثين ودليل على بشرية المسيح وأمه أو على ناسوته بتعبيرهم اللاهوتي فأكل الطعام تلبية لحاجة جسدية لا مراء فيها ولا يكون إلها من يحتاج إلى الطعام ليعيش فالله حي بذاته قائم بذاته باق بذاته لا يحتاج ولا يدخل إلى ذاته سبحانه أو يخرج منها شيء حادث كالطعام ونظرا لوضوح هذا المنطق الواقعي ونصاعته التي لا يجادل فيها إنسان يعقل فإنه يعقب عليه باستنكار موقفهم والتعجيب من انصرافهم عن ذلك المنطق البين انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ولقد كانت هذه الحياة البشرية الواقعية للمسيح عليه السلام مصدر تعب لمن أرادوا تأليهه على الرغم من تعاليمه فقد احتاجوا إلى كثير من الجدل والخلاف حول لاهوتية المسيح عليه السلام وناسوتيته كما ذكرنا ذلك من قبل باختصار واستطرادا في ذلك المنطق القرآني المبين من زاوية اخرى يجيء هذا الاستنكار قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ; والله هو السميع العليم ويختار التعبير بكلمة بما بدل كلمة من في هذا الموضع قصدا ليدرج المخلوقات التي تعبد كلها بما فيها من العقلاء في سلك واحد لأنه يشير إلى ماهيتها المخلوقة الحادثة البعيدة عن حقيقية الألوهية فيدخل عيسى ويدخل روح القدس وتدخل مريم كلهم في مًا لأنهم بماهيتهم من خلق الله ويلقي هذا التعبير ظله كذلك في هذا المقام ; فيبعد أن يكون أحد من خلق الله مستحقا للعبادة ; وهو لا يملك لهم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم الذي يسمع ويعلم ; ومن ثم يضر وينفع كما أنه هو الذي يسمع دعاء عبيده وعبادتهم إياه ويعلم ما تكنه صدورهم وما يكمن وراء الدعاء والعبادة فأما ما سواه فلا يسمع ولا يعلم ولا يستجيب الدعاء وينهي هذا كله بدعوة جامعة يكلف رسول الله ص أن يوجهها إلى أهل الكتاب قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل فمن الغلو في تعظيم عيسى عليه السلام جاءت كل الانحرافات ومن أهواء الحكام الرومان الذين دخلوا النصرانية بوثنيتهم ومن أهواء المجامع المتناحرة كذلك دخلت كل تلك المقولات على دين الله الذي أرسل به المسيح فبلغة بأمانة الرسول وهو يقول لهم يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار وهذا النداء الجديد هو دعوة الإنقاذ الأخيرة لأهل الكتاب ; ليخرجوا بها من خضم الانحرافات والاختلافات والأهواء والشهوات الذي خاض فيه أولئك الذين ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل نقطة اللقاء في اعتبار الإسلام هي العقيدة ونقف من هذا المقطع الذي انتهى بهذا النداء أمام ثلاث حقائق كبيرة يحسن الإلمام بها في إجمال الحقيقة الأولى هي حقيقة هذا الجهد الكبير الذي يبذله المنهج الإسلامي لتصحيح التصور الاعتقادي وإقامته على قاعدة التوحيد المطلقة ; وتنقيته من شوائب الوثنية والشرك التي أفسدت عقائد أهل الكتاب وتعريف الناس بحقيقة الألوهية ; وإفراد الله سبحانه بخصائصها وتجريد البشر وسائر الخلائق من هذه الخصائص وهذا الاهتمام البالغ بتصحيح التصور الاعتقادي وإقامته على قاعدة التوحيد الكامل الحاسم يدل على أهمية هذا التصحيح وأهمية التصور الاعتقادي في بناء الحياة الإنسانية وفي صلاحها كما يدل على اعتبار الإسلام للعقيدة بوصفها القاعدة والمحور لكل نشاط إنساني ولكل ارتباط إنساني كذلك والحقيقة الثانية هي تصريح القرآن الكريم بكفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ; أو قالوا إن الله ثالث ثلاثة فلم يعد لمسلم بعد قول الله سبحانه قول ولم يعد يحق لمسلم أن يعتبر أن هؤلاء على دين الله والله سبحانه يقول إنهم كفروا بسبب هذه المقولات وإذا كان الإسلام كما قلنا لايكره أحدا على ترك ما هو عليه مما يعتقده لاعتناق الإسلام فهو في الوقت ذاته لا يسمي ما عليه غير المسلمين دينا يرضاه الله بل يصرح هنا بأنه كفر ولن يكون الكفر دينا يرضاه الله والحقيقية الثالثة المترتبة على هاتين الحقيقتين أنه لا يمكن قيام ولاء وتناصر بين أحد من أهل الكتاب هؤلاء وبين المسلم الذي يدين بوحدانية الله كما جاء بها الإسلام ويعتقد بأن الإسلام في صورته التي جاء بها محمد ص هو وحده الدين عند الله ومن ثم يصبح الكلام عن التناصر بين أهل الأديان أمام الإلحاد كلاما لا مفهوم له في اعتبار الإسلام فمتى اختلفت المعتقدات على هذا النحو الفاصل لم يعد هناك مجال للالتقاء على ما سواها فكل شيء في الحياة يقوم أولا على أساس العقيدة في اعتبار الإسلام
الدرس الخامس لعن اليهود على لسان أنبيائهم والسبب في ذلك
وفي النهاية يجيء ذلك التقرير الشامل عن موقف أنبياء بني إسرائيل من كفار بني إسرائيل على مدى التاريخ ; ممثلا في موقف داود وموقف عيسى عليهما السلام وكلاهما لعن كفار بني إسرائيل واستجاب الله له بسبب عصيانهم وعدوانهم وبسبب انحلالهم الاجتماعي وسكوتهم على المنكر يفشو فيهم فلا يتناهون عنه ; وبسبب توليهم الكافرين ; فباءوا بالسخط واللعنة وكتب عليهم الخلود في العذاب لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما انزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون وهكذا يبدو أن تاريخ بني إسرائيل في الكفر والمعصية واللعنة عريق وأن أنبياءهم الذين أرسلوا لهدايتهم وإنقاذهم هم في النهاية الذين تولوا لعنتهم وطردهم من هداية الله ; فسمع الله دعاءهم وكتب السخط واللعنة على بني إسرائيل والذين كفروا من بني إسرائيل هم الذين حرفوا كتبهم المنزلة ; وهم الذين لم يتحاكموا إلى شريعة الله كما مر في المواضع القرآنية المتعددة في هذه السورة وفي السور غيرها وهم الذين نقضوا عهد الله معهم لينصرن كل رسول ويعزرونه ويتبعونه ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون فهي المعصية والاعتداء ; يتمثلان في كل صورهما الاعتقادية والسلوكية على السواء وقد حفل تاريخ بني إسرائيل بالمعصية والاعتداء كما فصل الله في كتابه الكريم ولم تكن المعصية والاعتداء أعمالا فردية في مجتمع بني إسرائيل ولكنها انتهت إلى أن تصبح طابع الجماعة كلها ; وأن يسكت عنها المجتمع ولا يقابلها بالتناهي والنكير كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون إن العصيان والعدوان قد يقعان في كل مجتمع من الشريرين المفسدين المنحرفين فالأرض لا تخلو من الشر ; والمجتمع لا يخلو من الشذوذ ولكن طبيعة المجتمع الصالح لا تسمح للشر والمنكر أن يصبحا عرفا مصطلحا عليه ; وأن يصبحا سهلا يجترى ء عليه كل من يهم به وعندما يصبح فعل الشر أصعب من فعل الخير في مجتمع من المجتمعات ; ويصبح الجزاء على الشرك رادعا وجماعيا تقف الجماعة كلها دونه ; وتوقع العقوبة الرادعة عليه عندئذ ينزوي الشر وتنحسر دوافعه وعندئذ يتماسك المجتمع فلا تنحل عراه وعندئذ ينحصر الفساد في أفراد أو مجموعات يطاردها المجتمع ولا يسمح لها بالسيطرة ; وعندئذ لا تشيع الفاحشة ولا تصبح هي الطابع العام والمنهج الإسلامي بعرضه لهذه الظاهرة في المجتمع الإسرائيلي في صورة الكراهية والتنديد يريد للجماعة المسلمة أن تكون لها كيان حي متجمع صلب ; يدفع كل بادرة من بوادر العدوان والمعصية قبل أن تصبح ظاهرة عامة ; ويريد للمجتمع الإسلامي أن يكون صلبا في الحق وحساسا تجاه الاعتداء عليه ; ويريد للقائمين على الدين أن يؤدوا أمانتهم التي استحفظوا عليها فيقفوا في وجه الشر والفساد والطغيان والاعتداء ولا يخافوا لومة لائم سواء جاء هذا الشر من الحكام المتسلطين بالحكم ; أو الأغنياء المتسلطين بالمال ; أو الأشرار المتسلطين بالأذى ; أو الجماهير المتسلطة بالهوى فمنهج الله هو منهج الله والخارجون عليه علو أم سفلوا سواء والإسلام يشدد في الوفاء بهذه الأمانة ; فيجعل عقوبة الجماعة عامة بما يقع فيها من شر إذا هي سكتت عليه ; ويجعل الأمانة في عنق كل فرد بعد أن يضعها في عنق الجماعة عامة روى الإمام أحمد بإسناده عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله ص < لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون > وكان الرسول ص متكئا فجلس فقال < ولا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرًا > وروى أو داود بإسناده عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله ص < إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض > ثم قال < لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم إلى قوله فاسقون > ثم قال < كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً أو تقصرنه على الحق قصراً > فليس هو مجرد الإمر والنهي ثم تنتهي المسأله إنما هو الإصرار والمقاطعه والكف بالقوه عن الشر والفساد والمعصية والاعتداء وروي مسلم بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ص < من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ; فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان > وروى الإمام أحمد بإسناده عن عدي بن عميره قال سمعت رسول الله ص يقول < إن الله لا يعذب العامه بعمل الخاصه حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه فإذا فعلوا عذب الله العامه والخاصه > وروى أبو داود والترمذي بإسناده عن أبي سعيد قال قال رسول الله ص < أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر > وتتوارد النصوص القرآنية والنبوية تترى في هذا المعنى ; لأن هذا التماسك في كيان الجماعة بحيث لا يقول أحد فيها وهو يرى المنكر يقع من غيره وأنا مالي وهذه الحمية ضد الفساد في المجتمع بحيث لا يقول أحد وهو يرى الفساد يسري ويشيع وماذا أصنع والتعرض للفساد يلحق بي الأذى وهذه الغيرة على حرمات الله والشعور بالتكليف المباشر بصيانتها والدفع عنها للنجاة من الله هذا كله هو قوام الجماعة المسلمة الذي لا قيام لها إلا به وهذا كله في حاجة إلى الإيمان الصحيح بالله ; ومعرفة تكاليف هذا الإيمان وإلى الإدراك الصحيح لمنهج الله ; ومعرفة أنه يشمل كل جوانب الحياة وإلى الجد في أخذ العقيدة بقوة والجهد لإقامة المنهج الذي ينبثق منها في حياة المجتمع كله فالمجتمع المسلم الذي يستمد قانونه من شريعة الله ; ويقيم حياته كلها على منهجه ; هو المجتمع الذي يسمح للمسلم أن يزاول حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; بحيث لا يصبح هذا عملا فرديا ضائعا في الخضم ; أو يجعله غير ممكن أصلا في كثير من الأحيان كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية القائمة اليوم في أرجاء الأرض ; والتي تقيم حياتها على تقاليد ومصطلحات اجتماعية تسترذل تدخل أحد في شأن أحد ; وتعتبر الفسق والفجور والمعصية مسائل شخصية ليس لأحد أن يتدخل في شأنها كما تجعل من الظلم والبطش والاعتداء والجور سيفا مصلتا من الإرهاب يلجم الأفواه ويعقد الألسنة وينكل بمن يقول كلمة حق أو معروف في وجه الطغيان إن الجهد الأصيل والتضحيات النبيلة يجب أن تتجه أولا إلى إقامة المجتمع الخير والمجتمع الخير هو الذي يقوم على منهج الله قبل أن ينصرف الجهد والبذل والتضحية إلى إصلاحات جزئية شخصية وفردية ; عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنه لا جدوى من المحاولات الجزئية حين يفسد المجتمع كله ; وحين تطغى الجاهلية وحين يقوم المجتمع على غير منهج الله ; وحيت يتخذ له شريعة غير شريعة الله فينبغي عندئذ أن تبدأ المحاولة من الأساس وأن تنبت من الجذور ; وأن يكون الجهد والجهاد لتقرير سلطان الله في الأرض وحين يستقر هذا السلطان يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئا يرتكن إلى أساس وهذا يحتاج إلى إيمان وإلى إدراك لحقيقة هذا الإيمان ومجاله في نظام الحياة فالايمان على هذا المستوى هو الذي يجعل الاعتماد كله على الله ; والثقة كلها بنصرته للخير مهما طال الطريق واحتساب الأجر عنده فلا ينتظر من ينهض لهذه المهمة جزاء في هذه الأرض ولا تقديرا من المجتمع الضال ولا نصرة من أهل الجاهلية في أي مكان إن كل النصوص القرآنية والنبوية التي ورد فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت تتحدث عن واجب المسلم في مجتمع مسلم مجتمع يعترف ابتداء بسلطان الله ويتحاكم إلى شريعته مهما وجد فيه من طغيان الحكم في بعض الأحيان ومن شيوع الإثم في بعض الأحيان وهكذا نجد في قول الرسول ص < أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر > فهو إمام ولا يكون إماما حتى يعترف ابتداء بسلطان الله ; وبتحكيم شريعته فالذي لا يحكم شريعة الله لا يقال له إمام إنما يقول عنه الله سبحانه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فأما المجتمعات الجاهلية التي لا تتحاكم إلى شريعة الله فالمنكر الأكبر فيها والأهم فهو المنكر الذي تنبع منه كل المنكرات هو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة وهذا المنكر الكبير الأساسي الجذري هو الذي يجب أن يتجه إليه الإنكار قبل الدخول في المنكرات الجزئية التي هي تبع لهذا المنكر الأكبر وفرع عنه وعرض له إنه لا جدوى من ضياع الجهد جهد الخيرين الصالحين من الناس في مقاومة المنكرات الجزئية الناشئة بطبيعتها من المنكر الأول منكر الجرأة على الله وادعاء خصائص الألوهية ورفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة لا جدوى من ضياع الجهد في مقاومة منكرات هي مقتضيات ذلك المنكر الأول وثمراته النكدة بلا جدال على أنه إلام نحاكم الناس في أمر ما يرتكبونه من منكرات بأي ميزان نزن أعمالهم لنقول لهم إن هذا منكر فاجتنبوه أنت تقول إن هذا منكر ; فيطلع عليك عشرة من هنا ومن هناك يقولون لك كلا ليس هذا منكرا لقد كان منكرا في الزمان الخالي والدنيا تتطور والمجتمع يتقدم وتختلف الاعتبارات فلا بد إذن من ميزان ثابت نرجع إليه بالأعمال ولا بد من قيم معترف بها نقيس إليها المعروف والمنكر فمن أين نستمد هذه القيم ومن أين نأتي بهذا الميزان من تقديرات الناس وعرفهم وأهوائهم وشهواتهم وهي متقلبة لا تثبت على حال إننا ننتهي إذن إلى متاهة لا دليل فيها وإلى خضم لا معالم فيه فلا بد ابتداء من إقامة الميزان ولا بد أن يكون هذا الميزان ثابتا لا يتأرجح مع الأهواء هذا الميزان الثابت هو ميزان الله فماذا إذا كان المجتمع لا يعترف ابتداء بسلطان الله ماذا إذا كان لا يتحاكم إلى شريعة الله بل ماذا إذا كان يسخر ويهزأ ويستنكر وينكل بمن يدعوه إلى منهج الله ألا يكون جهدا ضائعا وعبثا هازلا أن تقوم في مثل هذا المجتمع لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في جزئيات وجانبيات من شئون الحياة تختلف عليها الموازين والقيم وتتعارض فيها الآراء والأهواء إنه لا بد من الاتفاق مبدئيا على حكم وعلى ميزان وعلى سلطان وعلى جهة يرجع إليها المختلفون في الآراء والأهواء لا بد من الأمر بالمعروف الأكبر وهو الاعتراف بسلطان الله ومنهجه للحياة والنهي عن المنكر الأكبر وهو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة وبعد إقامة الأساس يمكن أن يقام البنيان فلتوفر الجهود المبعثرة إذن ولتحشد كلها في جبهة واحدة لإقامة الأساس الذي عليه وحده يقام البنيان وإن الإنسان ليرثي أحيانا ويعجب لأناس طيبين ينفقون جهدهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفروع ; بينما الأصل الذي تقوم عليه حياة المجتمع المسلم ; ويقوم عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقطوع فما غناء أن تنهي الناس عن أكل الحرام مثلا في مجتمع يقوم اقتصاده كله على الربا ; فيستحيل ماله كله حراما ; ولا يملك فرد فيه أن يأكل من حلال لأن نظامه الاجتماعي والاقتصادي كله لا يقوم على شريعة الله لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة وما غناء أن تنهي الناس عن الفسق مثلا في مجتمع قانونه لا يعتبر الزنا جريمة إلا في حالة الإكراه ولا يعاقب حتى في حالة الإكراه بشريعة الله لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة وما غناء أن تنهى الناس عن السكر في مجتمع قانونه يبيح تداول وشرب الخمر ولا يعاقب إلا على حالة السكر البين في الطريق العام وحتى هذه لا يعاقب فيها بحد الله لأنه لا يعترف ابتداء بحاكمية الله وما غناء أن تنهى الناس عن سب الدين ; في مجتمع لا يعترف بسلطان الله ; ولا يعبد فيه الله إنما هو يتخذ أربابا من دونه ; ينزلون له شريعته وقانونه ; ونظامه وأوضاعه وقيمة وموازينه والساب والمسبوب كلاهما ليس في دين الله إنما هما وأهل مجتمعهما طرا في دين من ينزلون لهم الشرائع والقوانين ; ويضعون لهم القيم والموازين ما غناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل هذه الأحوال ما غناء النهي عن هذه الكبائر فضلا عن أن يكون النهي عن الصغائر والكبيرة الكبرى لا نهي عنها كبيرة الكفر بالله ; برفض منهجه للحياة إن الأمر أكبر وأوسع وأعمق مما ينفق فيه هؤلاء الطيبون جهدهم وطاقتهم واهتمامهم إنه في هذه المرحلة ليس أمر تتبع الفرعيات مهما تكن ضخمة حتى ولو كانت هي حدود الله فحدود الله تقوم ابتداء على الاعتراف بحاكمية الله دون سواه فإذا لم يصبح هذا الاعتراف حقيقة واقعة ; تتمثل في اعتبار شريعة الله هي المصدر الوحيد للتشريع ; واعتبار ربوبية الله وقوامته هي المصدر الوحيد للسلطة فكل جهد في الفروع ضائع ; وكل محاولة في الفروع عبث والمنكر الأكبر أحق بالجهد والمحاولة من سائر المنكرات والرسول ص يقول < من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان > وقد يجيء على المسلمين زمان لا يستطيعون فيه تغيير المنكر بأيديهم ; ولا يستطيعون فيه تغيير المنكر بألسنتهم ; فيبقى أضعف الإيمان ; وهو تغييره بقلوبهم ; وهذا ما لا يملك أحد أن يحول بينهم وبينه إن هم كانوا حقا على الإسلام وليس هذا موقفا سلبيا من المنكر كما يلوح في بادىء الأمر وتعبير الرسول ص بأنه تغيير دليل على أنه عمل إيجابي في طبيعته فإنكار المنكر بالقلب معناه احتفاظ هذا القلب بإيجابيته تجاه المنكر إنه ينكره ويكرهه ولا يستسلم له ولا يعتبره الوضع الشرعي الذي يخضع له ويعترف به وإنكار القلوب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر ولإقامة الوضع المعروف في أول فرصة تسنح وللتربص بالمنكر حتى تواتي هذه الفرصة وهذا كله عمل إيجابي في التغيير وهو على كل حال أضعف الإيمان فلا أقل من أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان أما الاستسلام للمنكر لأنه واقع ولأن له ضغطا قد يكون ساحقا فهو الخروج من آخر حلقة والتخلي حتى عن أضعف الإيمان هذا وإلا حقت على المجتمع اللعنة التي حقت على بني إسرائيل لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون
الدرس السادس تحالف اليهود مع باقي الكفار لحرب الحق
ثم يمضي السياق إلى نهاية هذا المقطع في الحديث عن بني إسرائيل وهو نهاية هذا الجزء فيصف حالهم على عهد الرسول ص وهي حالهم في كل زمان وفي كل مكان فهم يتولون الذين كفروا ويتناصرون معهم ضد الجماعة المسلمة وعلة ذلك مع أنهم أهل كتاب أنهم لم يؤمنوا بالله والنبي وأنهم لم يدخلوا في دين الله الأخير فهم غير مؤمنين ولو كانوا مؤمنين ما تولوا الكافرين ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون وهذا التقرير كما ينطبق على حال اليهود على عهد رسول الله ص ينطبق على حالهم اليوم وغدا وفي كل حين كذلك ينطبق على الفريق الآخر من أهل الكتاب في معظم أرجاء الأرض اليوم مما يدعو إلى التدبر العميق في أسرار هذا القرآن وفي عجائبه المدخرة للجماعة المسلمة في كل آن لقد كان اليهود هم الذين يتولون المشركين ; ويؤلبونهم على المسلمين ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا كما حكى عنهم القرآن الكريم وقد تجلى هذا كله على أتمه في غزوة الأحزاب ومن قبلها ومن بعدها كذلك ; إلى اللحظة الحاضرة وما قامت إسرائيل في أرض فلسطين أخيرا إلا بالولاء والتعاون مع الكافرين الجدد من الماديين الملحدين فأما الفريق الآخر من أهل الكتاب فهو يتعاون مع المادية الإلحادية كلما كان الأمر أمر المسلمين وهم يتعاونون مع الوثنية المشركة كذلك كلما كانت المعركة مع المسلمين حتى و المسلمون لا يمثلون الإسلام في شيء إلا في أنهم من ذراري قوم كانوا مسلمين ولكنها الإحنة التي لا تهدأ على هذا الدين ; ومن ينتمون إليه ولو كانوا في انتمائهم مدعين وصدق الله العظيم ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون فهذه هي الحصيلة التي قدمتها لهم أنفسهم إنها سخط الله عليهم وخلودهم في العذاب فما أبأسها من حصيلة وما أبأسها من تقدمة تقدمها لهم أنفسهم ; ويا لها من ثمرة مرة ثمرة توليهم للكافرين فمن منا يسمع قول الله سبحانه عن القوم فلا يتخذ من عند نفسه مقررات لم يأذن بها الله في الولاء والتناصر بين أهل هذا الدين ; وأعدائه الذين يتولون الكافرين وما الدافع ما دافع القوم لتولي الذين كفروا إنه عدم الإيمان بالله والنبي ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون هذه هي العلة إنهم لم يؤمنوا بالله والنبي إن كثرتهم فاسقة إنهم يتجانسون إذن مع الذين كفروا في الشعور والوجهة ; فلا جرم يتولون الذين كفروا ولا يتولون المؤمنين وتبرز لنا من هذا التعقيب القرآني ثلاث حقائق بارزة الحقيقة الأولى أن أهل الكتاب جميعا إلا القلة التي آمنت بمحمد ص غير مؤمنين بالله لأنهم لم يؤمنوا برسوله الأخير ولم ينف القرآن الكريم عنهم الإيمان بالنبي وحده بل نفى عنهم الإيمان بالله كذلك ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء وهو تقرير من الله سبحانه لا يقبل التأويل مهما تكن دعواهم في الإيمان بالله وبخاصة إذا اعتبرنا ما هم عليه من انحراف التصور للحقيقة الإلهية كما سلف في آيات هذا الدرس وفي غيرها من آيات القرآن الكريم والحقيقة الثانية أن أهل الكتاب جميعا مدعوون إلى الدخول في دين الله على لسان محمد ص فإن استجابوا فقد أمنوا وأصبحوا على دين الله وإن تولوا فهم كما وصفهم الله والحقيقة الثالثة أنه لا ولاء ولا تناصر بينهم وبين المسلمين في شأن من الشئون لأن كل شأن من شئون الحياة عند المسلم خاضع لأمر الدين ويبقى أن الإسلام يأمر أهله بالإحسان إلى أهل الكتاب في العشرة والسلوك ; وبحماية أرواحهم وأموالهم وأعراضهم في دار الإسلام ; وبتركهم إلى ما هم فيه من عقائدهم كائنة ما تكون ; وإلى دعوتهم بالحسنى إلى الإسلام ومجادلتهم بالحسنى كذلك والوفاء لهم ما وفوا بعهدهم ومسالمتهم للمسلمين وهم في أية حال لا يكرهون على شيء في أمر الدين هذا هو الإسلام في وضوحه ونصاعته وفي بره وسماحته والله يقول الحق وهو يهدي السبيل