|
الكتب والمكتبات ودورهما الحضاري
((الكتب والمكتبات ودورهما الحضاري))
مهما يقل القائلون في فضل الكتاب على الأمم، وأثره في نهوضهم الحضاري، فسيظل فضل الكتاب على المسلمين أعظم، وأثره في حياتهم أكبر وأحمد.
فقد عني المسلمون بالكتاب، وقدّروه حق قدره، منذ أن نهضت دولتهم وأخذت تمضي قدماً في طريق الحضارة والرقي، ولهم في التنويه بفضله والإشادة بأثره الطيب، آثار حسان من المنظوم والمنثور، يقول المتنبي:
"وخير جليس في الزمان كتاب"
ويقول الجاحظ:"الكتاب وعاء ملئ علماً، وظرف حشي ظُرفاً، وبستان يحمل في ردن ينطق عن الموتى، ويترحم كلام الأحباء" .
ويحفل تاريخ المسلمين بأمثلة رائعة تصور شغفهم بالكتب وحرصهم عليها وإيثارهم لها أبلغ تصوير، فقد كان الحكم صاحب الأندلس يبعث التجار إلى شتى الأقطار ليبتاعوا له كل ما تصل أيديهم إليه من الكتب القديمة والحديثة في العلوم المختلفة .
وهذا الصاحب بن عباد كتب إليه نوح بن منصور ملك ساسان يدعوه أن يتولى الوزارة في دولته فاعتذر، وكان مما اعتذر به خزانة كتبه، فقد كان من الكلف بها والحرص عليها بحيث لا يستطيع فراقها، وكتبه من الكثرة بحيث يتعذر نقلها إلى مقامه الجديد، بل لقد شاع حب الكتب واشتد التنافس في اقتناءها حتى شمل من لا حاجة به إليها، ولا مأرب له غير التفاخر والمباهاة .
وأول ما ظهر من خزائن الكتب في الإسلام خزانة خالد بن يزيد بن معاوية(ت 85هـ)، فقد ذكروا أنه كان يعنى باقتناء كتب القدماء، وأنه أول من أمر فترجمت له كتب في الطب والنجوم وغيرهما .
وكانت العناية بدور الكتب تامة، والرغبة في التمكين لها وسد حاجاتها موفورة، فدور الكتب العامة التي يختلف الناس إليها كانت تقام على طراز معين يدل عليها، ويغني عن السؤال عنها، تتألف من حجرات شتىـ يفرش الحصير والبسط على أرضها، وتتدلى الستور على نوافذها وأبوابها، وتثبت على جدرانها رفوف من الخشب المزوق، ينضد عليها الكتب بعضها فوق بعض، ويقسم النشاط في دور الكتب بين هذه الحجرات، فبعضها للنسخ، وبعضها الآخر للاطلاع والمراجعة، والثالث للدرس والمناقشة...، كما كان يتولى العمل فيها طائفة من الموظفين، وهم الخازن، والمترجمون، والنساخ، والمناولون ، وقد كان لدور الكتب الكبيرة فهارس دقيقة منظمة، تبين للطالب الكتب التي فيها، وتهديه إلى الكتب التي يريدها في غير عناء ولا إضاعة وقت، وربما أعد للدار الواحد أكثر من فهرس واحد، كدار كتب عضد الدولة بن بويه بشيراز.
ومن المكتبات الكبيرة التي حفظ لنا التاريخ أساميها، وتدل على أهمية الكتب الحضارية، (مكتبة بيت الحكمة) ببغداذ، والتي أنشأها الخليفة العباسي هارون الرشيد، وتعتبر أول مكتبة عامة في الإسلام.
وظل بيت الحكمة على العهدية قائماً يشبع الحكمة والمعرفة مشرقاً يتلألأ حتى داهم التتار بغداد سنة 656هـ، وقتلوا المستعصم آخر خلفاء بني العباس، وعاثوا في الأرض فساداً، فكان مما طمسوه من معالم الحضارة الإسلامية الخالدة تلك المكتبة العلمية الكبرى.
ومنها (دار الحكمة) بالقاهرة، والتي أنشأها الحاكم بأمر الله الفاطمي سنة 395هـ، وأراد بها منافسة بيت الحكمة ببغداد، فزين بناءها وفرش أرضها وعلق الستور على أبوابها، وحمل إليها من خزائنه وخزائن غيره ما لم ير مثله، وزودها بكل ما يحتاج إليه الباحث من محابر وورق وأقلام، وأقام فيها طائفة من القراء والفقهاء والمنجمين... فجعل الناس يغدون إليها من جميع الطبقات للتعلم أو القراءة أو النسخ ، وظلت باقية حتى عهد صلاح الدين، فبنى مكانها المدرسة الشافعية.
ومنها (دار الكتب) بقرطبة، والتي أنشأها الحكم بن ناصر، وجعلها حافلة جامعة حتى بلغ عدد الكتب فيها مائتي ألف مجلد .
وثمة خزائن أخرى للكتب، كان لها في تاريخ الحضارة صيت بعيد، وفي خدمة الثقافة أثر بعيد، وحسبنا ما قصدناه.
أهمية الكتاب للحضارة:
لقد كان الكتاب -ولا يزال- من الضرورات الملحة لبناء حضارة سليمة قائمة على أسس سليمة، فإلى جانب ما تحتويه تلك الصفحات من تسجيل للتقدم الفكري في عصر كاتبه، في الآداب والعلوم ، فهي تنقل إلينا ذلك التراث الفكري الذي سطره عقل الإنسان في مختلف العصور، لكي يستطيع كل باحث ومفكر أن يتخذ من تفكير من سبقه مرتكزاً لمواصلة بحث بدأه غيره ليحقق القاعدة العلمية في مجال البحث القائلة :"ابدأ من حيث انتهى إليه الآخرون"،"والثقافة أو الفكر الإنساني عامة أشبه ما يكون بالنهر لا بد له من منبع ومصب، وبين المنبع والمصب لجج الأمواج بارتفاعها وانخفاضها، وفي أجزاء كثيرة من النهر تصطدم المياه بالصخور لتعوق حركتها، ومن ثم تسير على مهل وببطء، ومن منبع الثقافة الذي يمثل التراث الإنساني ككل إلى مصبها اللانهائي الممتد عبر المستقبل البعيد تزدهر أحياناً لتبلغ مرحلة متقدمة عن ماضيها بفعل تطور الإنسان واستقراره وتطلعه ليبذل مزيداً من الجهد لصالح التقدم البشري العام" .
|