معاوية وقيس.. حرب الد هاء والمكر!
قد يكون الانتصار في معارك الحياة راجعا الي اللين والصبر والحيلة، وليس فقط بقوة السلاح وابداء الشجاعة.. وهناك من ينتصر في معاركه علي أساس أن الغاية تبرر الوسيلة.. ولا يهمه الا تحقيق مكاسبه بأي وسيلة، بينما هناك من يري أنه لابد من شرف الوسيلة للوصول الي أشرف الغايات.
و..... بين الوسيلتين دارت المعارك عبر كل العصور.
ان قصص التاريخ الواقعية أكثر متعة من قراءة الروايات التي يتفتق عنها خيال الروائيين.. لان فيها سحر الواقع وقسوته في نفس الوقت.
والذي يقرأ الصراع الدامي الذي حدث بين الامام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ومعاوية بن أبي سفيان، يتضح أمامه الفارق بين من يريد أن يصل الي غايته دون أن يتنازل عن القيم والمثل العليا وبين من يريد أن يصل الي غايته في السلطة والحكم بأي وسيلة.. حتي لو كانت هذه الوسيلة هي المكر والخداع.
الامام علي كرم الله وجهه يمثل الرجل الحريص علي القيم والمباديء، ومعاوية يمثل الرجل الذي لا يعنيه الا الحصول علي السلطة والجاة والسلطان مهما كانت الوسائل.
وعندما كنت اقرأ في سيرة حياة قيس بن سعد الذي ولاه الامام علي بن أبي طالب حكم مصر كانت تبرز في ذهني العديد من علامات الاستفهام حول السياسة والساسة.. الذين يجيدون المكر والخداع.. والذين لا يجيدون هذا المكر وهذا الخداع.
لقد ذعر معاوية عندما تولي سعد بن قيس حكم مصر من قبل الامام فهو يعرف أن الرجل رغم تقواه يجيد ألاعيب السياسة، وعنده من المرونة في فهم الامور ما يجعله خطرا علي الامويين.. فقد علم انه عندما جاء الي مصر كانت هناك جماعة من أهل 'خربتا' يريدون الثأر لمقتل عثمان.. وانهم بالتالي لن يبايعوا عليا حتي يأخذ ثأر عثمان!
ولم يضيع الرجل وقته في محاولة اقناعهم بأنه لا ذنب لعلي في قتل عثمان، ولا له يد في ذلك، فهادنهم.. وحاول ابعادهم عن حلبة هذا الصراع.. أي حيدهم حتي يتفرغ لاحكام سيطرته علي مصر.
علم معاوية بذلك فاراد أن يستميله اليه، وارسل اليه العديد من الرسائل، وكان هو يرد علي رسائل معاوية بذكاء منقطع النظير.. فقد فاق دهاؤه دهاء معاوية!
فعندما ولاه الامام علي مصر ارسل اليه يقول:
سر الي مصر فقد وليتكم واخرج الي رحلك، واجمع اليه ثقاتك، ومن أحببت ان يصحبك حتي تأتيها ومعك جند، فان ذلك ارعب لعدوك، وأعز لوليك، فاذا انت قدمتها ان شاء الله فأحسن الي المحسن واشتد علي المريب، وارفق بالعامة والخاصة فان الرفق يمن'.
فأجابه سعد بقوله:
رحمك الله يا أمير المؤمنين.. فقد فهمت ما قلت.. أما قولك اخرج اليها بجند
فوا الله لئن لم ادخلها الا بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها ابدا، فأنا ادع ذلك الجند لك، فان انت احتجت اليهم كانوا منك قريبا، وان اردت أن تبعثهم الا وجه من وجوهك كانوا عدة لك، وأنا اصير اليها بنفسي وأهل بيتي، وأماما أوصيتني به من الرفق والاحسان فان الله عز وجل هو المستعان علي ذلك.
ولم يدخل مصر الا في سبعة نفر من أصحابه واستطاع أن يحسن التعامل مع الناس، وأن يسوس الناس بالعدل فأحبوه.. وهاون المنشقين فلم ينفروا منه.
* * *
كان من الطبيعي أن يقلق معاوية بن أبي سفيان.. وكان من الطبيعي كعادته أن يستميله اليه، فقد خشي أن يجعل من مصر قوة تساند الامام علي وبالتالي ترجح كفته.. فكتب اليه:
الي قيس بن سعد: أما بعد
فان كنتم قد نقمتم علي عثمان بن عفان رضي الله عنه في أثرة رأيتموها، أو ضربة سوط ضربها أو شتيمة رجل أو في تسييره آخر، أو في استعماله الفتي فانكم قد علمتم ان كنتم تعلمون أن دمه لم يكن يحل لكم، فقد ركبتم عظيما من الامر، وجئتم شيئا ادٌّا، فتب الي الله عز وجل يا قيس بن سعد، فانك كنت من المجبلين علي عثمان بن عفان رضي الله عنه، ان كانت توبة من قتل المؤمن تغني شيئا، فأما صاحبك: فانا قد استيقنا انه الذي اغري به الناس، وحملهم علي قتله حتي قتلوه، وان لم يسلم من دمه عظم قومك، فان استطعت يا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل، وتابعنا علي أمرنا، ولكن سلطان العراقين، اذا اظهرت ما بقيت، ولن احببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان، وسلني غير هذا مما تحب، فانك لا تسألني شيئا الا أوتيته، واكتب الي برأيك فيما كتبت به اليك والسلام'.
لقد حاول معاوية أن يغريه بالمناصب كعادته، ولكن قيس اراد أن يحادثه باللغة التي يفهمها لغة المكر والدهاء فرد عليه بقوله:
أما بعد: فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من قتل عثمان رضي الله عنه، وذلك أعد لم اقارفه ولم اطف به، وذكرت ان صاحبي هو الذي اغري الناس بعثمان ودسهم اليه حتي قتلوه، وهذا ما لم اطلع عليه، وذكرت: أن عظم عشيرتي لم نسلم من دم عثمان، فأول الناس كانوا فيه عشيرتي، وأما ما سألتني من متابعتك، وما عرضت علي من الجزاء فقد فهمته، وهذا أمر لي فيه نظر وفكرة وليس هذا مما يسرع اليه، وأنا كاف عنك، ولن يأتيك من قبلي شيء تكرهه، حتي تري ونري ان شاء الله، والمستجار الله عز وجل، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته'.
* * *
ولم يكن هذا الرد بكاف لوضع النقط فوق الحروف.. ان معاوية يريد استمالة الرجل، ولكن الرجل لم يعطه ما يشفي صدره.. فارسل معاوية اليه:
أما بعد: فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فاعدك سلما، ولم ارك تباعد فاعدك حربا، أنت فيما ها هنا كحنك الجذور، وليس مثلي يصانع المخادع، ولا ينتزع للمكايد، ومعه عدد الرجال، وبيده أعنة الخيل، والسلام عليك'.
وهكذا عندما لم يجد معاوية املا في الخداع، أن يظهر له قوته.. بينما قرر قيس بن سعد أن يضع النقط فوق الحروف فارسل الي معاوية:
أما بعد: فان العجب من اغترارك بي، وطمعك في، واستسقاطك رأيي، اتسومني الخروج من طاعة أولي الناس بالامرة، وأقولهم للحق، وأهدهم سبيلا، واقربهم من رسول الله وسيلة، وتأمرني بالدخول في طاعتك، طاعة أبعد الناس عن هذا الامر، واقولهم للزور، واضلهم سبيلا، وابعدهم من الله عز وجل ورسوله وسيلة، ولد ضلين مضلين، طاغوت من طواغيت ابليس.
وأما قولك: اني ماليء عليك مصر خيلا ورجلا ، فوالله ان لم اشغلك بنفسك حتي تكون نفسك أهم اليك، انك لذو جد، والسلام'.
* * *
قرأ معاوية الرسالة، وعرف ان الرجل لا يشتري وأنه لا يأبه به ولا يخشاه، فاستخدم الحيلة كعادته، وأخذ يحدث الناس علي أن قيسا من شيعته بدليل انه لم يقاتل أهل 'خربتا' في مصر المتعاطفين مع عثمان!
* * *
وأخذ بعض الناس يطالبون الامام علي أن يأمر واليه علي مصر بمحاربة 'أهل خربتا' واقتنع الامام بذلك، غير أن ابن سعد كان لا يري هذا الرأي، ويري أن الحرب ليس في صالح الامام في هذه الظروف.. وطلب اقالته فأقاله الامام وعين بدلا منه محمد بن أبي بكر!
وقد فرح معاوية عندما سمع هذا الخبر لانه كان يخشي من سعد، حتي انه عندما سمع ان سعد بن قيس عاد الي المدينة، ثم اتجه الي الامام علي بعد أن ضايفة في المدينة مروان بن الحكم ارسل معاوية الي مروان رسالة يقول له فيها:
امددت عليا بقيس بن سعد ورأيه ومكانه، فوالله لو امددته بمائة ألف مقاتل ما كان ذلك بأغيظ لي من اخراجك قيس بن سعد الي علي'.
* * *
جاء محمد بن أبي بكر ليخلفه في حكم مصر، ولم يستمع الي نصيحة قيس بن سعد بمهادنة أهل 'خربتا' فحاربهم ولكنهم انتصروا عليه.
وأراد الامام أن يولي 'الاشتر' حكم مصر.. ولكن ما كاد يدخلها حتي دس له السم في طعامه بواسطة أحد عملاء معاوية.
وكان الاشتر هذا مما يخافهم معاوية حتي أن الرواه رووا عن معاوية قوله: ان لله جنودا من عسل'.
وهو يعني أن يدس لاعدائه السم في العسل فيتخلص منهم.
مهما يكن من شيء فالتاريخ يقول لنا أن معاوية ارسل جيشا بقيادة عمرو بن العاص لاحتلال مصر، واستطاع عمرو دخول مصر، وبعدها قتل محمد بن أبي بكر، ومثل بجثمانه ووضعوه في جيفة حمار وحرقوه!!
* * *
وتمر الايام.. وتتوالي الاحداث، ويستشهد الامام علي، ويتولي بعده الخلافة ابنه الحسن رضي الله عنه الذي كان في مقدمة جيشه قيس بن سعد، الا أن الحسن اثر أن يتنازل عن الحكم لمعاوية بن أبي سفيان حتي يضع نهاية للحرب الاهلية بين المسلمين.. وطلب من اتباعه أن يطيعوا معاوية، ومن هنا فقد قام قيس بن سعد خطيبا في الناس وقال لهم:
أيها الناس. اختاروا الدخول في طاعة امام ضلالة أو القتال من غير إمام.
وأثر الناس وقد اجهدتهم الحروب الرضوخ للأمر الواقع، ومبايعة معاوية.. ومن الذين بايعوه قيس بن سعد بعد أن أمنه معاوية.
مراجع:
صور تاريخية علي أدهم
الخلفاء الراشدون عبدالوهاب النجار
اتمام الوفاء في سيرة الخلفاء محمد الخضري