بتاريخ : 3- 12-1422هـ
الحمد لله الذي شرع لعبادة الحج إلى بيته الحرام، أحمده سبحانه جعل منافع الحج مذللة للأنام، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أشهد أن سيدنا و نبينا محمدا عبد الله ورسوله، خير من حج البيت ووقف بالمشاعر العظام، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الأئمة الأبرار الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله فإنكم في ديار اجتمع لكم فيها شرف الزمان وشرف المكان فاغتنموا هذين الشرفين تكونوا من المفلحين.
أيها المسلمون، لئن كثرت التجمعات وتعددت الملتقيات فإنها جميعًا مهما بلغت في سمو الأهداف ورفعة الغايات لن تبلغ هدف هذا الاجتماع الشامل، المترابط المتضامن في أهدافه وآماله وآلامه، إنه اجتماع الحج إلى بيت الله في بلد الله الأمين موطن المقدسات ومتنزَّل الرحمات، ذلك البلد الذي حرمه الله، وحمى حماه، وأضفى عليه رداء الأمن الشامل، حيث عمَّ به الإنسان والحيوان والنبات، وبسط السكينة ونشر ألوية السلام لإقامة الشعائر كما قال سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَـٰلَمِينَ * فِيهِ ءايَـٰتٌ بَيّـنَـٰتٌ مَّقَامُ إِبْرٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ} [آل عمران: 96، 97]، وليكون الملتقى للإخوة والمجتمع للعباد والملاذ للمؤمنين يثوبون إليه، ويجتمعون في رحابه، استجابة لنداء الخليل إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام الذي أمره به ربه كما قال سبحانه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرٰهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْقَائِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ * وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ * لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَائِسَ ٱلْفَقِيرَ} [الحج: 26 ـ 28].
فشهود المنافع التي هي من أظهر أهداف الحج ومقاصده أمرٌ وثيق الارتباط بهذه الفريضة، ووطيد الصلةِ بها إذ هو أثر عنها وثمرة من ثمارها، وإنها -يا عباد الله- منافع كثيرة تجل عن الحصر، وتسمو عن العدّ، لكنها مجتمعة على مقصود واحد، هو تحقيق صلاح أمر الدين والدنيا، والترقي بالأمة المسلمة في مدارج الكمالات، وإن التضامن والعمل على وحده الصف والشدَّ على الروابط وتجديد ما اندرس وتقوية ما وهن وجبر ما انكسر هو من أعظم هذه المنافع شأنًا، وأرفعها منزلة، وأسماها مقامًا؛ إذ هو سعيٌ للحفاظ على الأخوة التي أعلى سبحانه مقامها، وبارك فيها، فقال سبحانه: {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وإن الحفاظ على هذه الأخوة والقيام بحقوقها من أظهر الوسائل لصيانة بناء الأمة الواحدة، حتى يقف شامخًا أمام عوادي الدهر ومعاول الهدم، ولتحقيق العزّ والتمكين، والخلافة في الأرض، وهو الذي وعد سبحانه به عباده، وعدًا حقًا، لا يتخلف ولا يتبدل، حين قال عز اسمه: {وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلأرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ} [النور: 55].
ثم إن في استشعار المسلم الحاج مكامن القوة في هذا الدين المتبدِّية في وحدة قائمة على التوحيد لله رب العالمين توحيدًا تنطق به كل شعيرة من شعائر الحج، ويعلنه الحاج في كل موقف من مواقفه، ما يحمله على انتهاج السبل المفضية إلى الحفاظ على هذه القوة، ورعايتها حق رعايتها، بفهمٍ عميق، وإخلاص وثيق، وعمل موصول لا يتطرق إليه كلل ولا يخالطه عجز، أو يكدر صفوه ملل، ولذا كان لزامًا على حجاج بيت الله حين يفدون لقضاء مناسكهم أن تتسع أنظارهم وترتقي أفهامهم إلى إدراك منافع الحج، وتحويلها من معارف مبثوثة في السطور وأماني تعتلج بها الصدور إلى واقع حي يبقى أثره، ويمتد نطاقه، وتتسع أبعاده، فعلى الحاج حين ينطق بالتلبية ويلهج بها لسانه أن يستشعر معاني التحرر من عبودية المخلوق إلى عبودية الخالق وحده بالاستجابة لأمره، والخضوع لسلطانه.
وما كان لمسلم بعد أن لبى نداء الرحمن على لسان خليله أن يلبي نداء الشيطان الداعي إلى الفرقة والاختلاف بين أبناء الأمة الواحدة، وليس لمسلم أن يتخذ شعارًا غير شعار الإيمان الذي أعلنه في منازل الرحمة والغفران، وعند حجه البيت وأدائه النسك، حتى لا يكون كمن نكص على عقبيه، ونكث بما عاهد الله عليه.
فاتقوا الله عباد الله، واغتنموا فرصة هذه الزيارة المباركة لحج بيت الله، واعملوا فيها على تحقيق المكاسب وشهود المنافع الحقة المتيقنة قُرَبًا وطاعاتٍ تزدلفون بها إلى ربكم، أو تضامنًا واجتماعًا لصالح هذه الأمة في كل سبيل، ودفع نيْر الظلم الذي تصطلي به في كثير من ديارها، والجور الذي أقضَّ المضاجع، وانأوا بأنفسكم عن كلِّ متوهَّم مزعوم من هذه المنافع تحظوا بالقبول والغفران والرضوان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـٰتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يأُوْلِي ٱلأَلْبَـٰبِ} [البقرة: 197].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: فيا عباد الله، إن منافع الحج فرصة كبرى لا يصح إسقاطها من الحسبان، ولا أن تُغمَض عنها الأجفان، كيف وقد بيَّن سبحانه أنه شرع الحج وأمر خليله بأن يؤذن به لشهود هذه المنافع، فكيف تُهمل الغاية وأنى يعظُم الكسب، ومتى تبلغ الأمة المراد إذا أعرضت عن منافع هذه الفريضة، وأدبرت عن هذا الخير؟!
ألا فاتقوا الله عباد الله، واعملوا على الإفادة من فرصة هذا الركن العظيم، واللقاء الكريم، تكونوا من الفائزين المفلحين.
وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير فقد أمرتـم بذلك في كتاب الله حيث قال الله سبحانه: {إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد ...