الفصل الرابع: العثور على الأرض الصلبة
مثلها مثل غيرها من الشركات، كان التركيز الأول لشركة دل تقليل المصاريف وزيادة الأرباح، لكن أحدا لم يتطرق إلى التدفقات النقدية، حتى بدا الأمر وكأن الجميع سعيد بما بلغته سرعة السيارة، دون الاكتراث بالنظر إلى مؤشر المتبقي في خزان الوقود. كان الاعتقاد السائد في الشركة أنها قادرة على النمو والتوسع بمعدل أسرع من معدل نمو أي سوق تعمل فيه، وكان للشركة تواجد في عدة قارات وأسواق، وكان لديها عدة خطوط إنتاج لحواسيب مختلفة، وكانت كمية النقود المنفقة ضخمة جدا، حتى بدأت متوسطات الربحية والمستحقات لدي الغير تدق طبول الخطر، حتى حققت أول خسارة فصلية في تاريخها، وكان لابد من العثور على حلول لهذه المشاكل.
قامت الخطة الجديدة لمعالجة أسباب الخسائر على تغيير ترتيب الأولويات، فبعدما كان سلم الأولويات هو: النمو ثم النمو ثم النمو، تحول ليصبح: السيولة، الربحية، النمو. هذا الترتيب الجديد انتقل إلى كل مدير ومسؤول في الشركة، حتى أن مايكل دل كان يوزع بنفسه أهرامات ورقية مكتوب على كل وجه فيها السيولة، الربحية، النمو في الاجتماعات الدورية. أصبحت النغمة الجديدة للشركة كلها هي كيفية تحقيق أفضل ربحية بأقل تكلفة، بعدما كانت كيفية النمو بأقصى سرعة. تحولت أنظمة البيع في الشركة لتعرض لكل بائع هامش الربح وعمولته لكل عملية بيع يقوم بها على الهاتف، ولم تعد الأهمية لمن يبيع مليون دولار، بل لمن يحقق أعلى هامش ربحية على هذه المليون من المبيعات، وأصبح كل قسم في الشركة مطالب بتقديم تقرير الأرباح والخسائر عن عملياته.
لم تكن هذه نهاية الأخبار السيئة، فبعدما دخلت دل معترك تصنيع الحواسيب المحمولة في عام 88، وحققت لنفسها اسما وشهرة، خاصة بعدما كانت أول شركة تطرح حاسوبا محمولا يعتمد على معالج انتل 486 ويعمل على شاشة ملونة، كما قدمت وقتها أنحف وأخف حاسوبا محمولا وزنا في الأسواق. مع تركيز دل على تقديم المزيد من التقنية في حواسيبها المحمولة، بدأت تظهر مشكلات التأخر في تسليم الطلبات، ومشاكل العيوب في التصنيع. لحل هذه المشاكل، سارعت الشركة بتعيين جون ميديكا John Medica، مدير تطوير حواسيب باور بوك لدى شركة ابل، وهو اتخذ العديد من القرارات المؤلمة، مثل إلغاء تطوير طرازات جديدة، والتركيز على طراز جديد واعد: لاتيديود Latitude XP.
هذه القرارات كانت ذات تداعيات صعبة، مثل اختفاء اسم دل من سوق الحواسيب المحمولة لفترة طويلة، طالت حتى انتهاء تطوير هذا الطراز الجديد، لكن الأصعب كان إخبار العملاء أن لدى الشركة بعض المشاكل التي تعمل على حلها في الوقت الحالي، هذه المشاكل هي كذا وكذا، وهذه أسباب حدوثها، وهذه هي طرق حلها، ولهذا كله سنأتي بطراز جديد تماما، ولهذه الأسباب لا يجب عليك ألا تقلق من التعامل معنا بعدما ننتهي من هذه العملية كلها. كانت الشركة قائمة على الأسلوب المباشر في كل شيء، ولذا كان من الطبيعي أن تكون الشركة صريحة في عرض مشاكلها على عملائها. قد تكون فكرة هذه الصراحة جديدة علينا في العالم العربي، لكنها أتت بنتائج إيجابية في حالة دل في السنوات التالية.
في هذا الوقت، كانت أم المشاكل للحواسيب المحمولة هي البطارية والتي كانت تدوم لفترة أقصاها ساعتين من الزمن. تصادف وقتها أن سافر مايكل دل إلى اليابان لحضور افتتاح فرع شركة دل هناك، وأثناء زيارته لشركة سوني، التي كانت من كبار الموردين لشركة دل، حدث أن جرى موظف ياباني إلى مايكل دل ليخبره أنه بحاجة للاستماع إليه، بخصوص نوع جديد من البطاريات، اسمها ليثيوم آيون، قادرة على العمل لفترة تزيد عن أربع ساعات، وفي حجم أقل من نصف البطاريات الأخرى (وقتها). بدون تردد، عرض مايكل الأمر على مهندسيه، وقرر بعدها أنه يريد وضع هذه البطاريات في قلب جميع الطرازات الجديدة من حواسيب دل المحمولة.
كانت هذه التقنية جديدة تماما في السوق، وكانت طلبيات دل تستنفد جميع قدرات شركة سوني على تصنيع هذه البطاريات، ما جعل الوقت اللازم للمنافسة لتصنيع وإنتاج بطاريات مماثلة قرابة العام. للتسويق لإطلاق هذه الحواسيب المحمولة الجديدة، استضافت شركة دل خمسين من ألمع الصحفيين والمحللين والخبراء، في رحلة جوية من مطار نيويورك إلى لوس انجلوس، وقدمت لهم حواسيبها المحمولة وعليها برامج الكتابة والتحرير، والتي استعملها الجميع، وحين هبطت الطائرة في نهاية رحلتها والتي دامت خمس ساعات ونصف، كانت جميع حواسيب دل المحمولة لا زالت تعمل، محطمة كل الأرقام القياسية السابقة. هذه الرحلة كانت ذات أثر عظيم، جعلت مبيعات الحواسيب المحمولة مسؤولة عن 14% من إجمالي عوائد الشركة.
كل هذه المشاكل ساعدت دل على المجيء بحلول ناجعة، عملت بمثابة الأرض الصلبة – الأساس الذي ارتكزت عليه فيما بعد للنمو والتوسع من جديد، ولعل من أهم سمات شركة دل ليس أنها شركة بلا أخطاء، بل أنها شركة لا تكرر الخطأ ذاته مرتين.
… نواصل بعد فاصل!