كتاب “رؤيتي” للشيخ محمد بن راشد حاكم دبي
ترددت كثيرًا وطويلاً قبل أن أكتب لكم عن انطباعاتي عن كتاب رؤيتي للشيخ محمد، مرد ذلك وسببه أن العادة جرت في عالمنا العربي على أن يميل من يحلل كتب الرؤساء والحكام والأمراء إلى فريقين: فريق متكسب يطمع في الغنيمة، وفريق ناقم لم يحظ بالغنيمة، كما لا تتسم غالبية أجهزة الأمن العربية بالروح الرياضية عند تعرض كتب القادة لأي نقد، سلبيًا كان أو إيجابيًا.
لست أدعي دور البطولة، ولن أرتدي رداء الشهداء، لكني سأعرض أهم النقاط التي وجدتها خلال إبحاري عبر صفحات الكتاب، ولن أبالي بما سقته من مقدمة حاولت فيها إدعاء الحيادية، فهذا الكتاب من الأهمية بمكان، حتى يجب على جميع زوار هذه المدونة قراءته دون انتظار، وأترك السبب حتى نهاية الكتاب.
نجحت إمارة دبي الصغيرة فيما عجزت عنه دول كبيرة، عربية وغير عربية، ما جعلها حديث العالم. يحكم هذه الإمارة رجل قد لا تكون سمعت عنه من قبل، ولعلك شاهدته دون أن تعرفه، إنه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الذي وضع خلاصة فكره في كتاب وجهه لجميعنا نحن العرب، شاركنا فيه رحلة دبي من كساد شديد لحقها نتيجة أفول تجارة اللؤلؤ، وكيف حوّل حكام دبي هذا الكساد إلى درس اقتصادي تعلموه جيداً وتناقلوه من جيل لآخر، ما ساعدهم على النهوض من كبوتهم.يرى الشيخ محمد أن القيادة الراشدة هي نقطة ضعف اقتصاديات الدول العربية، فالقائد حقًا سيعمل على استكشاف وخلق قيادات أخرى من شعبه، تساعده على المضي في الطريق الصحيح، وهو قدم في كتابه مقدمة أكد فيها أن نجاح دولة الإمارات هو نجاح لكل العرب، وأعلن فيها استعداده لمشاركة أشقائه العرب أسباب النجاح، وعزمه تجنبيهم موارد الفشل، فهل من مستمع؟
جزء الكتاب الأول عنونه الشيخ محمد “الغزال والأسد“، تعكس حكمة سائدة في الغابة، إذ يستيقظ الأسد كل يوم وهو موقن أنه عليه الجري بأسرع من أبطأ غزال في الغابة، إذا هو أراد أن يبقى على قيد الحياة، وأما الغزال فيستيقظ كل صباح وهو مقتنع أن عليه العدو بأسرع من أسرع أسد في الغابة، إن هو أراد البقاء على قيد الحياة. في عالم اليوم، عليك أن تعدو أسرع من غيرك إذا أردت النجاح.
الشيح محمد فارس ومربي خيول شهير، فهو لا يدخل السباق من أجل العدو، بل فقط من أجل الفوز، وهو صاحب الرأي القائل أنك “إن لم تكن في الطليعة فأنت في الخلف“، متنازلاً بذلك عن مكانك الطبيعي لصالح منافس ربما كان أقل منك مقدرة واستعدادًا وإبداعًا. الفشل الحقيقي – في رأي الشيخ- ليس في أن تقع على الأرض، لكن الفشل هو أن تبقى على الأرض حين يُطلب منك الوقوف، وأما أكبر الفشل فألا تريد الوقوف بعد الوقوع.
لكل جواد كبوة، يجب معرفة أسبابها واكتشاف مكامن الخطأ والخلل فيها، ثم العودة إلى السباق بأسرع وقت ممكن، وفي عينيك الطموح إلى الفوز. التأخر عن صدارة السباق في الاقتصاد معناه البطالة والجهل والفقر والمرض وعدم الأمن، وأما الصدارة فمعناها تحقيق النهضة الشاملة والتنمية الكبيرة. في عالمنا اليوم، تتقدم الأمم على بعضها البعض بتقدم اقتصادها وتتراجع بتراجعه.
كنا نحن العرب يومًا كذلك في قمة المجد، عبر إيمان عميق بالله، وإصرار راسخ على الجري في سباق النهضة، ما ساقنا إلى مشارق المعمورة ومغاربها، لكن للزمن دورته تضعف فيها العزائم والهمم وتضمحل الدول ولا يبقى من مجدها سوى التراث وصفحات في سجل التاريخ.
عندما خرج أبو جعفر المنصور يبحث عن مكان يبني فيه مدينته بغداد، لم يبحث عن مكان حصين يشن منه الحروب ويسهل عليه الدفاع عنه، بل اختار موقعها الحالي لأنها تقع على مفترق الطرق التجارية والبحرية، عبّر عنه بالقول: “هذا موضع معسكر صالح، هذه دجلة ليس بيننا وبين الصين شيء، يأتينا فيها كل ما في البحر، وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول ذلك، وهذه الفرات يجيء فيها كل شيء من الشام والرقة وما حول ذلك”.
لغتنا العربية اليوم سادسة الترتيب العالمي لعدد المتحدثين بها، لا أكثر ولا أقل، لكن جاء وقت على العربية كانت فيه لغة أحدث العلوم والرياضيات والطب والسياسة والدبلوماسية، وظل العلماء والرياضيون والأطباء والمؤرخون والبناؤون المسلمون أساتذة الأساتذة وفلاسفة الفلاسفة ومعلمي المعلمين نحو ألف عام.
يضع الشيخ يده على سبب أسباب ما نحن فيه: عندما يواجه أحدنا تحديًا ما، يتطلب منه إيجاد الحل أو اتخاذ القرار، فالخيارات المتاحة له اثنان: إما أن يأخذ نتاج فكر من سبقوه، وإما أن يستفز همة قدراته الإبداعية وطاقته العقلية ويطور فكرة جديدة ويبتكر ويخترع ما هو جديد.
خمسون سنة من الإبداع والتميز المكثفين يمكن أن تدفع أمة بأسرها ألف عام.
نتوقف هنا حتى لا يطول الكلام وتنام الأفهام، مع وعد بتناول هذا الكتاب بشكل مطول، لأهمية ما جاء فيه من حكمة وخبرة. لكن قبل الختام أتساءل بدوري، ما الجديد الذي أضفناه -نحن كمسلمين- للعالم الذي نعيش فيه خلال العقد الماضي، ما الهدف والفكر والمشروع القومي الذي سعينا جميعًا لتحقيقه؟
ماذا عن مشروع يكون فيه أول من يهبط على سطح المريخ عربيًا وبجهد عربي خالص؟ ماذا عن مشروع تجاري يقضي على المجاعات في العالم كله؟ ماذا عن نظام تسليح عربي يجعل السلاح النووي بلا أسنان عديم الجدوى؟ ماذا عن الكثير الذي يمكن فعله…
للحديث بقية بمشيئة الله.