منالمصادفات ذات الدلالة أن يختفي أسامة بن لادن الذي كان رمزا لفكرةالتغيير بالعنف المسلح في ذات الوقت الذي يتجه فيه العالم العربي إلىمحاولة إحداث التغيير بالوسائل السلمية والديموقراطية ــ إذ في حين لمينجح بن لادن في تغيير شيء في العالم العربي والإسلامي فإن الجماهيرالعزلاء نجحت في تحقيق ذلك التغيير في بلدين عربيين على الأقل، هما تونسومصر، وهي مازالت «تجاهد» لبلوغ ذات الهدف في سوريا واليمن.
لست أعني أننا انتقلنا من طور إلى طور، وأن صفحة ما سمي بالإرهاب طويتبمقتل بن لادن، لكنني أقول إن وعي الجماهير العربية نضج بصورة نسبية، بحيثلم يعد نهج التغيير المسلح مقنعا لها، حتى الجماعات «الجهادية» التي تبنتذلك الفكر وانطلقت منه في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي راجعتموقفها وأعادت النظر في سياساتها، وانحازت أخيرا إلى محاولة التغييرالسلمي والديموقراطي، إذ أدركت أنها دفعت ثمنا باهظا للغاية ولم تتقدمخطوة واحدة باتجاه الهدف الذي كانت تنشده.
هل يعني ذلك أن مشروع بن لادن مات بموته، وأن العالم أصبح أكثر أماناالآن، كما قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما؟ إجابتي بالنفي لسببينجوهريين هما: أن الرجل قتل بعد أن وجدت دعوته صداها في أكثر من منطقة فيالعالم العربي والإسلامي، حيث تحولت القاعدة من فكره مرتبطة بشخصه إلى نهجارتضته بعض المجموعات الراديكالية، التي لم تكن لها بالضرورة صلة بالرجلأو بتنظيمه، السبب الثاني أن المظالم التي توجه ضد الجماهير المستضعفةكثيرا ما تمارس من خلال قمع لا سبيل إلى رده إلا بعنف مقابل.
إننا كثيرا ما نحصر اهتمامنا بممارسات التطرف أو الإرهاب، لكننا نتجاهل فيأغلب الأحيان الظروف البيئية التي أفرزت المتطرفين أو الإرهابيين، لستأدعو إلى غض الطرف أو تبرير تلك الممارسات بطبيعة الحال، لكني أزعم أنتحري البيئة التي أفرزتها وعلاج ما فيها من ثغرات هو الوسيلة الأنجح فيمحاصرة الإرهاب والقضاء عليه.
وأذهب في هذا الصدد إلى أن ثمة تعمدا فيتجاهل عنصر «البيئة» لأن تسليط الضوء عليه يعني مباشرة كشف مظالم الأنظمةالتي تسحق الناس وتحولهم إلى قنابل غاضبة تمشي على الأرض، ومرشحة للانفجارفي أي لحظة.
نموذج إسرائيل يفرض نفسه مباشرة على السياق في اللحظة الراهنة، ذلك أنه منغرائب عالم السياسة وأعاجيبه، ومن سخريات القدر أيضا، ألا تذكر جرائمإسرائيل بحق الشعب الفلسطيني ضمن العمليات الإرهابية، بل إن توصف مقاومةالاحتلال والاغتصاب الإسرائيليين بأنها هي الإرهاب!
من المفارقات أيضا أنالأنظمة المستبدة في العالم العربي، التي لم تتوقف عن إرهاب شعوبها يوماما، استخدمت أجواء الحرب ضد الإرهاب لتصفية معارضيها ومضاعفة قمع شعوبها،وهي ذاتها الأنظمة التي تتحدى مظاهرات شعوبها التي خرجت هذه الأيام وهيعزلاء في تظاهرات سلمية تطالب بتغيير يحفظ لها كرامتها ويوقف الإهاناتوالانتهاكات التي تتعرض لها.
لقد كان ظهور بن لادن استجابة لظرف تاريخي، كانت التدخلات الأمريكيةوالسياسات القمعية المحلية من أبرز عناوينه، لكن الجديد في المشهد العربيأن فكرة التغيير السلمي أصبحت نموذجا مطروحا في الساحة، لكنها لم تتجذربعد لسبب جوهري هو أن الأنظمة المعنية قابلت الدعوات السلمية بعنف نشهدهالآن في ليبيا واليمن وسوريا، بل إن هذه الأنظمة استخدمت ميليشيات مسلحةلم تختلف كثيرا عن تنظيم القاعدة، في تحدي إرادة الشعوب وسحقها. وقد سميتكتائب القذافي بليبيا، والبلاطجة في اليمن، والشبيحة في سوريا. وكلهم منجنس واحد اختلفت مسمياته.
إن مقتل بن لادن لن يغير كثيرا من خرائط الواقع، لأن استمرار ظلم الأنظمةالمستبدة سيرشح لنا آخرين يستنسخون الرجل، فيرفعون رايته ويسيرون علىدربه. وأخشى أن تصبح فكرة التغيير السلمي بواسطة الجماهير في تونس ومصر،استثناء تاريخيا لا يقاس عليه، علما بأن الأصوليين يعتبرون أن الاستثناءلا حكم له.
إن ممارسات بعض القادة العرب الآن لا تختلف كثيرا عما فعله بن لادن، فهوقتل الأمريكيين وهم قتلوا شعوبهم، لكن الفرق الأساسي أن بن لادن كان زاهدافي الدنيا وعيناه معلقتان بآخرته،
أما أولئك القادة فلم يشبعوا لا منالسلطة ولا من الثروة، وتملكتهم الدنيا طول الوقت