اشتهر أن أحمد رحمه الله لم يكتب بنفسه شيئا من الفقه ولا الأجوبة عن المسائل التي تقع له، وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- في الإعلام شدة كراهته لذلك، فقال: وكان -رضي الله عنه- شديد الكراهة لتصنيف الكتب، وكان يحب تجريد الحديث، ويكره أن يكتب كلامه إلخ، وإنما حمله على الامتناع من كتابة المسائل الفقهية وما يذهب إليه الخوف من الخطأ في الجواب لسعة الأدلة، ونقص جنس الإنسان، أو الخوف من اعتماد التلاميذ على فتواه، وتركهم البحث والتحصيل، والأخذ بالدليل، أو ترك ذلك تواضعا منه، وتحقيرا لشأن نفسه، كعادة العارفين بالله تعالى، فعلم الله حسن نيته وقصده، فألهم تلامذته ومن بعدهم أن اعتنوا بتلك الأجوبة والاختيارات، فدونوها وأثبتوا ما ظفروا به عنه مما يتعلق بالأحكام والآداب والعقائد، والأصول والفروع وغيرها، وقد ذكر القاضي أبو الحسين من تلامذته الذين رووا عنه خمسمائة وأحد وسبعين رجلا، كما في الجزء الأول من طبقات الحنابلة، ومنهم الكثير من مشايخه وأقرانه، وقد اشترك الجميع في الأخذ عنه، ومنهم من اختص برواية المسائل الفقهية. كما سرد بعضهم أبو الحسين في طبقات الحنابلة فقال: وأما نقلة الفقه عن إمامنا أحمد فهم أعيان البلدان، وأئمة الزمان، منهم ابناه صالح و عبد الله وابن عمه حنبل و إسحاق بن منصور الكوسج و أبو داود السجستاني و إبراهيم الحربي و أبو بكر الأثرم و أبو بكر المروذي و عبد الملك الميموني و مهنا الشامي و حرب الكرماني و أبو زرعة و أبو حاتم الرازيان و أبو زرعة الدمشقي و مثنى بن جامع الأنباري و أبو طالب المشكاني و الحسن بن ثواب و ابن مشيش و ابن بدينا الموصلي و أحمد بن قاسم و القاضي الرقي و أحمد بن أحرم المزني و علي بن سعيد النسوي و أبو الصقر و البرزاطي والبغوي و الشالنجي و عبد الرحمن المتطبب و أحمد بن الحسن الترمذي و أحمد بن أبي عبدة و أحمد بن نصر الخفاف و أحمد بن واصل المقري و أحمد بن هشام الأنطاكي و أحمد بن يحيى الحلواني و أحمد بن محمد الصائغ و أحمد بن محمد بن صدقة وهم مائة ونيّف وعشرون نفسا. وقد سردهم المرداوي في الإنصاف ورتبهم على الحروف فبلغوا مائة وواحدا وثلاثين نفسا، ثم ذكر المكثرين فبلغوا ثلاثة وثلاثين شخصا، وقد طبع بعض مؤلفاتهم، كمسائل الإمام أحمد لأبي داود صاحب السنن، ومسائل الإمام أحمد رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ ومسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله ورواية صالح بن أحمد وغيرها، ويوجد مسائل آخرين لا تزال مخطوطة. ثم إن تلك المسائل والمؤلفات المتفرقة قد جمعت وألفت، فهناك بعض تلامذة أولئك الرواة أو من بعدهم قد تتبعوا رواياتهم ومؤلفاتهم، وحرصوا على نقلها مشافهة أو كتابة، وبذلوا الجهد الكبير في جمع شتاتها، وضم بعضها إلى بعض، وترتيبها وتنسيقها، وكان أشهر من جمعها واعتنى بها أبو بكر الخلال ؛ فقد صرف عنايته إلى جمع علوم هذا الإمام -رحمه الله- وتعب في ذلك ، وقطع المراحل والفيافي لأجلها، وكتبها عالية ونازلة، وصنفها كتبا وقسمها إلى مواضيع، وبلغ كتابه الكبير المسمى بالجامع نحو مائتي جزء في عشرين سفرا كما ذكره ابن الجوزي في المناقب و ابن القيم في الإعلام وغيرهما، ومع هذا التتبع والاستقصاء فقد فاته الشيء الكثير من فتاوى هذا الإمام ومسائله، والأخبار المنقولة عنه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى وهؤلاء الذين ذكروا هذا كالخرقي وغيره بلغهم بعض نصوص أحمد في هذه المسألة -يعني مسألة حضانة الصبي- ولم تبلغهم سائر نصوصه، فإن كلام أحمد كثير منتشر جدا وقل من يضبط جميع نصوصه في كثير من المسائل لكثرة كلامه وانتشاره، وكثرة من كان يأخذ العلم عنه، و أبو بكر الخلال قد طاف البلاد، وجمع من نصوصه في مسائل الفقه نحو أربعين مجلدا، وفاته أمور كثيرة ليست في كتبه... فهو مع كثرته لم يستوعب ما نقله الناس. ا هـ. ثم تبعة تلميذه الخاص أبو بكر عبد العزيز المشهور بغلام الخلال، فكتب في المذهب الحنبلي عدة مؤلفات، وجمع ما وقف عليه من الروايات ورتبها، ورجح بعضها على بعض، وجمع بين المختلفات، كما يتضح من اختياراته والنقول الكثيرة عنه، ثم جاء بعده تلميذه شيخ المذهب أبو عبد الله الحسن بن حامد الذي بذل جهدا كبيرا في نشر أقوال هذا الإمام وجمع متفرقها، والاستقصاء في تتبع ما في الإمكان الحصول عليه من الروايات والحكايات والمؤلفات في مسائل أحمد وفتاواه، ونقلها بالأسانيد للتأكد من صحتها، وقد ألف في ذلك كتابا كبيرا سماه بالجامع في المذهب، بلغ نحو أربعمائة جزء، نقل ما فيه عن مشايخه الثقات، حتى اتصل إسناده بمؤلفي تلك المسائل من تلامذة الإمام أحمد الذين دونوا ما سمعوا عنه، وقد أحببت أن أنقل أسانيده التي ذكرها في أول كتابه المذكور، والتي نقل بها تلك المؤلفات عن أربابها الذين شافهوا بها الإمام أحمد وقد ذكرها أبو الحسين الفراء في طبقات الحنابلة في ترجمة ابن حامد رقم (638) قال -رحمه الله- اعلم أن الذي يشتمل عليه كتابنا هذا من الكتب والروايات المأخوذة من حيث نقل الحديث والسماع منها كتاب الأثرم، و صالح و عبد الله و ابن منصور و ابن إبراهيم و أبي داود و الميموني و المروذي و أبي الحارث و أبي طالب و حنبل و عبد الله بن سعيد و مهنا و أبي النضر و أبي الصقر و يعقوب بن بختان و إبراهيم بن هانئ و محمد بن علي و جعفر بن محمد النسائي و عبد الكريم بن الهيثم القطان و أحمد بن القاسم و زكريا بن الفرج و محمد بن الحكم وابنه بكر و حرب الكرماني و يوسف بن موسى و أحمد بن أصرم المري و محمد بن يحيى الكحال و ابن مشيش و أبي زرعة و مسلم بن الحجاج و المشكاني و إبراهيم الحربي و أحمد بن هشام وكتاب الخرقي فأما كتاب الأثرم فقرأته على أحمد بن سالم الختلي قال: حدثنا أبو حفص عمر الشرابي قال: حدثنا الأثرم عن أبي عبد الله و عبد العزيز بن جعفر عن أحمد بن محمد بن خلف القاضي، عن الأثرم عنه. وأما عبد الله فأخبرنا ابن مالك و ابن الصواف في الإجازة عنه، وأخبرنا ابن جعفر عن محمد بن عبد الله بن العباس السواق عن عبد الله وأما صالح فعن عبد العزيز عن أبي المغيرة الجوهري عن صالح وأما ابن منصور فأخبرنا ابن سالم قال: حدثنا الطيالسي عن ابن منصور عنه، وأما عبد العزيز أيضا: فعن الطيالسي عنه. وأما أبو داود فأخبرنا ابن حيوية الخزاز عن أبي مخلد عنه: و عبد العزيز بن جعفر عن القنطري عن أبي داود عنه، وأما أبو الحارث فعن عبد العزيز قال: حدثنا الخلال عن الراشدي عن أبي الحارث عنه، ثم ذكر أسانيده إلى أولئك الرواة عن أحمد كلهم واحدا بعد واحد إلى أن قال: وأما كتاب الخرقي فأخبرناه أبو بكر الحسن بن يحيى بن قيس المقري عنه. قال أبو عبد الله بن حامد اعلم -عصمنا الله وإياك من كل زلل- أن الناقلين عن أبي عبد الله -رضي الله عنه- ممن سميناهم وغيرهم، أثبات فيما نقلوه، وأمناء فيما دونوه، وواجب تقبل كل ما نقلوه، وإعطاء كل رواية حظها على موجبها، ولا تعل رواية وإن انفردت، ولا تنفى عنه وإن عزبت، ولا ينسب إليه في مسألة رجوع إلا ما وجد ذلك عنه نصا بالصريح، وإن نقل: كنت أقول به وتركناه وإن عري عن حد الصريح في الترك والرجوع أقر على موجبه، واعتبر حال الدليل فيه، لاعتقاده بمثابة ما اشتهر من روايته، وقد رأيت بعض من يزعم أنه منتسب إلى الفقه يليّن القول لا كتاب إسحاق بن منصور ويقول: إنه يقال: إن أبا عبد الله رجع عنه، وهذا قول من لا ثقة له بالمذهب؛ إذ لا أعلم أن أحدا من أصحابنا قال بما ذكره ولا أشار إليه، وكتاب ابن منصور أصل، بداية حالة تطابق نهاية شأنه، إذ هو في بدايته سؤالات محفوظة، ونهايته أنه عرض على أبي عبد الله فاضطرب؛ لأنه لم يكن يقدر أنه لما يسأله عنه مدوّن، فما أنكر عليه من ذلك حرفا، ولا رد عليه من جواباته جوابا، بل أقر على ما نقله، أو وصف ما رسمه، واشتهر في حياة أبي عبد الله ذلك بين أصحابه، فاتخذه الناس أصلا إلى آخر أوانه إلخ. واختلف أصحابه في كتبه؛ أيقال: فيها قديم لا حكم له؟ فقال الخلال في كتاب العقيقة: إن ما رواه مهنا، قال: سألت أبا عبد الله عن رجل يختن ابنه لسبعة أيام، فكرهه، وقال: هذا فعل اليهود، وقال لي أحمد بن حنبل كان الحسن يكره أن يختن الرجل ابنه لسبعة أيام. إن ذلك قديم، والعمل على ما رواه حنبل وغيره، ولفظ حنبل أن أبا عبد الله قال: إن ختن يوم السابع فلا بأس، وإنما كرهه الحسن لئلا يتشبه باليهود، وليس في هذا شيء. وقال عبد العزيز بن جعفر في مسألتين، إحداهما من كتاب ابن منصور والأخرى في كتاب المروذي ما يطابق ما قاله الخلال فقال عبد العزيز في الأيمان في الحدود وما رواه ابن منصور قديم، والعمل على ما رواه حرب و صالح لا يمين في شيء من الحدود، وأن ما رواه المروذي في القائل: يا لوطي أنه يسأل عما أراده، فإن قال: أردت أنك من قوم لوط، لا حد، قول قديم، والعمل ما رواه مهنا وغيره، أن عليه الحد، وهذا القول متميز أن يكون كتاب الكوسج ومسائله، وكتاب مهنا ومسائله، وكتاب المروذي وما جاء به، تترك لأنها قديمة، هذا عندي لا ينبغي أن يعول عليه، وإثباتها قديما وجديدا، لا يكون من حيث الاستدلال لضعف مسألته في كتابه عند طائفة لعلها قوية عند غيرها، ومع ذلك فما قدم وحدث في هذا الباب سواء، إذ لا مزية لما حدث على ما قدم، إلا بمقارنة صريح، فيترك له ما كان من قبله قديما، ومهما لم يوجد ذلك بطل أن يكون القديم دون الجديد. وليست جوابات إمامنا في الأزمنة والأعصار إلا بمثابة ما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من الآثار لا يسقط نهايتها موجبات بدايتها إلا بأمر صريح بالنسخ أو التخفيف، فإذا عدم ذلك كان على موجبات دعايته، فكذلك في جواباته، إذ العلماء قد أنكروا على أصحاب الشافعي من حيث الجديد والعتيق، وأنه إذا ثبت القول فلا يرد إلا باليقين، فكذلك في جوابات إمامنا، ورأيت طائفة من أصحابنا في مسائل الفروع والأصول يسلكون الوقف، وأنه لا يفتى بشيء إلا ما سبق به وإلا وجب السكوت في ذلك، وطائفة ثانية فصلت فقالت: ما كان من في لأصول فإنه لا يجيب في شيء إلا ما كان القول من الأئمة فيه سابقا، وعملوا فيه على ما نقله أبو طالب عن أبي عبد الله في الإيمان، أن من قال: مخلوق فهو جهمي، ومن قال: إنه غير مخلوق فقد ابتدع، وأنه يهجر حتى يرجع- أن ذلك وعيد على مخالفة أمر لا يسع الجواب فيهما، وإن كان من الفروع في الفقه، فإنه يسع الجواب، وإن كان به منفردا، والأشبه عندي أن سائر الفقه والأصول سواء، وأن له إيقاع الجواب عند الاضطرار ونزول الحادثة أن يجتهد فيما يوجبه الدليل، ويفتي بذلك إن كان بالقول منفردا، كما أن إمامنا صار في الأصول إلى ظاهر التنزيل، وقد بيّن إمامنا أحمد في القرآن أنه لا يشك ولا يقف، وأن القائلين بالحكاية والمحكي، واللفظ والملفوظ، والتلاوة والمتلو، زنادقة. ا هـ. هذا آخر كلام ابن حامد نقلته بتمامه مع طوله، ليقف القارئ على احتياط أولئك العلماء وتثبتهم في النقل، وعلى ثقتهم بأولئك المشايخ الذين دوّنوا تلك المسائل، وتأكدهم من صحتها، وعدم تطرق الشك إلى شيء من محتوياتها، وأته لا فرق بين متقدمها ومتأخرها، والله الموفق.