ما سَمِعت قصةً أليمة كقصة الطفل أحمد ذي السنوات الأربع، والذي لَقِي حَتْفَه قتيلاً على يد زوجة أبيه منذ بضعة أشهر.
كانت والدته قد انفصَلَت عن أبيه، وبَقِي هو وأخته في حضانة والده، ثم إنَّ هذا الوالد تزوَّج بأخرى، أو أنه كان قد تزوَّجها قبل تسريح الأولى، فألْقَى بأبنائه إليها ظانًّا بها كلَّ الخير، وليس هذا عذرًا له في إهماله لِمَن استرعاه الله إيَّاهم، فهو الوالد وهو المسؤول عن حِفظ أبنائه، وليست زوجته أو الخادمة.
والله وحده يعلم كم من البؤس ذاقَه هذان البائسان بَدءًا بنَزْعهما عن والدتهما قبل سنِّ التمييز، وانتهاءً بما وصَلَت إليه الأحداث من قتْل الابن وإخفائه، ثم إلقاء جُثَّته بعد تشويهها.
بدأت القضية بادِّعاء المرأة أنَّ الطفل قد خرَج من المنزل ولَم يَعُد، وأنه رُبَّما تَمَّ اختطافه، وبدأتْ عمليات البحث، والناس في حُزنٍ وفجيعة وترقُّب لمصير الطفل المفقود، وخوفٍ على أبنائهم من الخروج حتى في معيَّتهم، ثم تَكَشَّفت الحقائق عندما أشارَت الخادمة إلى سوء معاملة الزوجة لأبناء زوجها، فوجَّهت بذلك التحقيق نحوها؛ حيث كانت المفاجأة الكبيرة، فتلك المرأة التي كانت تُظهر حزنها الشديد وتعاطُفَها مع الوالد المحزون، وتُصَبِّره وتُؤَمِّله بالعثور على ابنه، كانت وراء كلِّ هذه القصة!
ومع كلِّ ما امْتَلأَت به القلوب من الحزن والألَم، ومع عِظَم حجم الفاجعة التي هزَّت المنطقة وزَلْزَلت من سَمْعها وعايَنها؛ لوحشيَّة فِعْل المرأة القاتلة، وبُرودة دَمها أثناء البحث عن الابن، كل هذه الأحداث شَحَنت القلوب بشحنة من البُغض والكراهية لهذه المرأة، ورغبةً في تمزيق قلبها - كما مزَّقت جثَّة ذلك الطفل، ومزَّقت قلوب والديه وأهله - انْهَالَت الرسائل الموعزة للوالدين بعدم التنازُل عن القِصاص بالقاتلة، وبأنها تستحقُّ الموت مئات المرات؛ لجريمتها المُنكرة، إلاَّ أنَّ أمرًا أعظمَ من ذلك زلزَل القلوب وأسال الدموع، وأثارَ كوامِنَ النفوس، وجعَلها تَلْهج بالتكبير والتهليل.
ألاَ وهو ما أقْدَمَت عليه الوالدة الثَّكلى من عفوٍ عن المرأة الأخرى! عفَت عمَّن تجرَّدت من إنسانيَّتها، فأرَتْها بذلك كيف تكون الإنسانيَّة، عفَت واحْتَسَبت بالرغم من كلِّ الألَم والحزن الذي يُفَتِّت قلبها.
أيُّ صبرٍ، وأي احتسابٍ، وأي إيمان امْتَلأت به هذه المرأة، ولا نُزَكِّيها؛ فما يعلم السرائر وخبايا النفوس إلاَّ الله، ولكن نُحْسِن الظنَّ بها، فنَحسبها كذلك؛ لأن فِعْلها الذي فعَلته أعظمُ وأقوى من أي انتقام كانتْ ستُمضيه لو أرادَت، ولكنها آثرَت أن يَعتقها الله نظيرَ إعتاقها لهذه الرَّقبة،
ومع ما يُثيره الجميع من تشكيك في أسبابها، وأنَّها رُبَّما تقاضَت نظيرَ عفوها مبلغًا ماليًّا، إلاَّ أنْ لا شيء من كنوز الأرض يستحقُّ أن تعفوَ لأجله، وفاجِعَتُها في ابنها لهي أكبر من أيِّ ثمنٍ، ولكني أحْسَبها آثرَت المُتاجرة مع الله؛ بقوله تعالى: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134]، ويقول: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22].
أسأل اللهَ أن يَرْبِط على قلبها، ويُعظم أجْرَها، ويُؤْجِرها في مصيبتها، ويُخلفها خيرًا منها.
لا أظنُّ قلبًا بلَغ من القسوة ما بلَغه قلبُ تلك المرأة التي أيْقَظَت الطفل من نومه؛ لتفعلَ فَعْلتها الغادرة، ولا أظنُّ قلبًا بلَغ من الرحمة ما بَلَغه قلب تلك الأم التي حُرِمَت من ابنها مرتين، فآثَرَت الآخرة على الانتقام، وترَكَت القاتلة؛ لتنالَ جزاءَها ألفَ مرَّة في الحياة.