كانت قدماي ثقيلتين، وأنا أدّب نحو السوق، وثقلت أكثر لحظة كنت أخطو باتجاه المحل، ومن ثم الدخول إليه، غير أني حمدت الله، إذ وجدتُ أن صاحبه مشغول مع زبائن من النساء. كانت هيئاتهن فارهة فقد بسط عدداً كبيراً من الإطارات والعوينات الشمسية، وهن يواصلن تقليبها، ووضع بعضها على العينين، مصحوباً مع ابتسامات وضحكات رقيقة، وهادئة، ترسم أقواساً للشفاه المؤطرة، بالأحمر الفاقع والمائل إلى الدكنة، بينما يرتفع لحم الوجنتين بشكل يسحر صاحب المحل، فيذوب في ابتساماتهن وغنجهن، وفيما ينبعث من أجسادهن وثيابهن من عطور، وأنا أُقلب نظري في واجهات المحل، والرفوف التي تتكئ عليها الإطارات الجميلة والباهرة، وكم تمنيت أن أقتني أحدها، وأعدل من وسامة وجهي. كنتُ أحدقُ ملياً بالصور التي أظهرت رجالاً ونساءً يرتدون النظارات، ويبدون على هيئات دعائية جميلة وجذابة، أحسنوا تصويرها. فيما كفي تتحسس الإطار الراقد في جيبي، متمنياً أن تطول زيارة الفتيات هكذا، حيث يبعدن عني حرج الكلام، وغموض ما قد يترتب من ذلك، فالمحل من الأبهة بما يغري بارتفاع الأسعار كالبضائع الأخرى في السوق، غير أني قلت في نفسي، إني لا أرغب باقتناء إطارجديد، بل تركيب عدستين متواضعتين، على إطار قديم، أنا مقتنع أنه يؤدي الغرض المطلوب، سيما وأني قد أكملت الفحص مجاناً في مستوصف مجاور لبيتي، وبذلك أنهيت حلقات مهمة في هذا الأمر.
استمر الحال هكذا، وقتاً لا أدري قياسه، غير أني تمنيت لو يطول، بعد أن أنهى الرجل احتياجات الفتيات، وغادرن المحل، تاركات عطرهن يحوم في فضائه، عندما اقتربت منه مؤدياً التحية، بش في وجهي في حين أخرجت الورقة التي تحدد درجة النظر، سلمتها إليه. حدق بها، ثم قال:
- بسيطة، أمامك إطارات كثيرة فاختر لك مايناسبك...
قلت:
- أنا لا أحتاج إلى إطار، فقط إلى عدسات.
قال:
- والإطار..؟
-إني أمتلك إطاراً قديماً اعتدته.
- لابأس.
أخرجته، ثم وضعته على زجاج العارضة، حدق به، كاتماً ضحكته، مستبدلاً إياها بابتسامة فاترة، شكلت أقواساً قصيرة رغم أنه حاول كتمان مشاعره، غير أنه أعاد قراءة مامكتوب على الورقة قال:
- هذا يكلفك سبعة آلاف ديناراً..
- ماذا؟!
- كما قلت سبعة آلاف.
- بدون إطار..؟!
- طبعاً هذا هو سعر العدسات اليوم.
- كيف..؟ هذا لا يمكن...!
- إنه سعرها، ونحن لا نأخذ زيادة يا أخي.
- لا .. حاشاك، غير أن هذا المبلغ لايناسبني، إنه يشكل أضعاف مرتبي الشهري..!
- هذا هو واقع الحال.
التقطت الإطار، ثم دسسته في جيب بنطالي، وأخذت الورقة منه شاكراً له، مقرراً أنا لا أدخل محلاً آخر، وحين واجهت الشارع داهمني شعور غريب، انصعت له على عجل، وهو أمر وضع إطار نظارتي القديم على عيني دونما عدسات، وحسبت ذلك أول الأمر حالة من المزاح مع نفسي، ففعلت، ولحظة ارتكز واستقر الإطار تماماً، انبهرت من وضوح الرؤيا أمامي، فقد اتخذت الأشياء هيئات مغايرة لما كنت أرى، إذ اتسع الشارع الطويل أكثر. دافعاً البنايات إلى الخلف.
وكانت مديات النظر عندي قد تباعدت، فقد اتضحت معالم بعيدة وجديدة، كأني أراها قريبة مني وواضحة، لكن حركة الناس بدت بطيئة، وقسم منهم ظهر زاحفاً بأجسادهم، فالبعض يسير على أربع، يغير من اتجاهه بين لحظة وأخرى، بينما البعض الآخر يتكئ على الأعمدة منهكاً، كليلاً، تتخاطف هيئاتهم السيارات المارقة بسرعة موجعة. كانت الأشياء والأثاث والحاجيات المنزلية مرمية على الأرصفة، والبعص يخلون محالهم ودكاكينهم من بضاعتها، يسارعون للبيع، بلغة ونداءات لا يفهمها المارّة، فيما أصواتهم تبدو متعبة يائسة. رحت أتجول في الشارع الطويل، حتى اقتربت من فم السوق الذي ازداد ضجيجه. الكل يعلن عن بضاعته، بينما الآخرون ينظرون بارتخاء إلى مايجري. يقترب من يمشون على أربعة، يتشممون البضاعة، ثم يغادرون نحو الرصيف الآخر، بينما يختفي البعض منهم وراء عارضات الشارع الآخر.
بدت البنايات أمامي مبعوجة، كما لو أنها قطع صفيح تعرضت للضغط، وإن قامات العمارات قد قصرت لحظتها كنت أتحسس المبلغ الذي يرقد داخل جيبي، خوفاً من أن يُسرق، مفكراً، كيف سأتصرف به، بعد أن قررت الاستغناء، عن شراء عدسات، والاكتفاء بهذا الحال، لكني فكرت كيف ستكون حالي مع حاجتي للقراءة، إذا ما أضافت اللاعدسات رؤيا بعيدة. الحقيقة شغلني هذا كثيراً، وقررتُ الوقوف أمام أول مكتبة أصادفها، ورحت أبحث عنها، غير أني فوجئت باختفائها جميعاً فلا أجد سوى عارضات لأحذية وملابس ومواد أخرى، كانت كل هذه البضاعة معروضة بجوار بعض، بحيث يصعب اختراق صفوفها، فقد اندلقت أحشاء المحلات والمخازن وكشفت عن ألوانها البراقة.
وازداد بريق العيون المخذولة، وهي تحدق فيها مراراً دون جدوى.
كان بحثي عن مكتبة يقلقني بسبب عدم عثوري بسهولة على واحدة منها، حيث كانت منتشرة هنا وهناك، عزمت على أن أبحث في زوايا النفايات عليّ أجد قصاصة لصحيفة أو مجلة أستطيع قراءتها والوقوف على ما أريده منها، غير أني عجزت أيضاً. حاولت السؤال عن المكتبة من المارّة أو الباعة، وفوجئت من بعضهم يعرض عن الإجابة، والبعض الآخر يحدق بي بسخرية، أو يبدي استنكاره، حتى عثرت على أحدهم، فبادرته بالسؤال على عجالة، لأنه كان ساكناً في مكان قريب مني. قلت:
- هل توجد مكتبة قريبة من هنا..؟
حدق بي مبتسماً، لكنه كلف نفسه بالإجابة:
- مكتبة...؟!! أي مكتبة يا أخي.. لا أدري...!
تركته، بل هو من ابتعد عني، مستغرباً من دهشتي وتفردي عنه، ثم سرت مبتئساً مفكراً في الشارع، تستقبلني الشوارع، وأنا أنظر إلى نفس الحالة المحيرة، فالبعض الذي يسير على أربع قد ازداد، لكن الذي بهرني أكثر مالاحظته، ولا أستطيع إخفاءه عنكم، هو منظر الحيوانات كالقطط والكلاب. وهي تسير على اثنتين، وتبدو بهيئات مغايرة لحيوانيتها بسبب الثقة الكاملة بما يجري لها وحولها.
كانت المشاهد تترى، وتزداد حدتها، فيما الشمس آخذة بالاتقاد، حيث تسقط عمودية على رأسي، وأنا أسلم جثتي للأزقة والشوارع والأسواق، مسرّعَاً الخطى هذه المرة، منهزماً، متفادياً، ما قد يترتب أمامي من مشاهد تزيد من قلقي وارتباكي، إذا ما ازدادت رؤيتي للأشياء وضوحاً أكثر، وحجم ما أراه أمامي يزداد، وهرولت نحو الشارع العام، ثم أشّرت إلى أول تاكسي، توقف بسرعة، فتحت الباب ورميت جثتي، داخله بجوار السائق، ثم انطلقت السيارة على عجالة، قال السائق:
- إلى أين يا أخي..؟!
- قلت: - إلى المدفن الصحراوي.
فاستغرب.. إذ سأل باندهاش:
- إلى أين... لا أفهم ماتقول...!
- قلت إلى المدفن الصحراوي.
- أنا لا أعرف مكاناً بهذا الاسم اعذرني.
نظرت لكي أطمئنه على ذلك، غير أني انبهرت، كان كلباً يجلس خلف المقود ويديره بمهارة، اضطرب قلبي أول مرة، وارتعشت قال:
- ماذا أصابك يا أخي، قلت لك لا أعرف مكاناً بهذا الاسم...!
حدقت بالجانب الآخر، ثم أعدت النظر إليه فوجدتُه على نفس الصورة. لكن اضطرابي بدأ يزول تدريجياً ، قلت في نفسي، لأستقر هكذا، مازلت مغادراً المدينة العجيبة، قلت مدارياً:
- سأرشدك بنفسي.
قال : - طيب سأوصلك.
- ورحت أشير عليه بالإنعطاف من هنا، ثم من هناك، وأرشده أن يسلك الشوارع الطويلة هذه ، ثم ينعطف من هنا أو هناك، وهو منصاع لي بهدوء دونما ضجر، يقود السيارة على مهل دون اضطراب، مما أتاح لي فرصة الاطمئنان على نفسي، وحين برحنا كل شيء، انكشف لنا الخلاء واضحاً، إلاّ من بضع حقول سرعان ماتلاشت، فأمحلت الأرض واصفرّ وجهها وازدادت وحشتها ويباسها، وهو يقود على مهل وأناة، وأنا أستقر على مقعدي، مدوراً كل ماشاهدت، مهدئاً من الطنين الذي تركته في رأسي مشاهداتي تلك، وحين أدركنا المكان طلبت منه التوقف قائلاً:
- على مهلك، هاهو المدخل إلى المدفن الصحراوي..
- طيب، الحقيقة أني أصله لأول مرة، إنه بعيد عن المدينة كثيراً، استغرق منا الطريق وقتاً.
- لا يهم، سأمنحك نقودي، كل نقودي فأنا لا أحتاج إليها بعد
ثم دسست كفي في جيبي، ضممت كل ما أمتلكه من ثمن العدسات، كورتها في داخل كفي، ثم سلمتها إليه، فانبهر من مشاهدتها، وأراد أن يعترض، غير أني قلت:
- لا... إنها لك، لكن احفظ المكان فقد يطلب منك أحدهم إيصاله إليه.
نظر لي بامتعاض، كان كلباً حقيقياً وراء المقود، وقبل أن يتحرك بسيارته أدركت، إذ رفعت الإطار من على عيني، وسلمته له، وضعته على المقعد الذي كنتُ أحتله قبل لحظات قائلاً:
- خذه ، قد يفيدك في رؤية الأشياء على حقيقتها.
حينها شكرني، ولم يعترض ، بل غادرني مسرعاً، فتذكرت أني رأيته بهيئة آدمية تماماً، يجلس خلف المقود، فارقني مبتعداً، ووليت وجهي نحو المدفن الصحراوي، كنت أجري على أربع.. وكم حاولت أن أصحح من مسيرتي، لكني عجزتُ، ولحظة اقترابي من بدء المدفن، سقطت على بطني منهكاً، وأخذتُ أزحفُ على أرض ذات نتوءات صخرية حادة، مما أدى إلى تهرئ ملابسي وتقطع قماش قميصي، كاشفاً عن صدري وبطني، وأنا أزحف، وأزحف. والنتوءات تتوغل في لحمي وتحدث خدوشاً دامية وغائرة، بعدها تحسست منطقة رملية ناعمة أدركتها، مواصلاً الزحف، حيث أخذت ذرات الرمل تندس داخل الجروح كالملح، وأنا أزحف وأتلظى، أزحف وأتلوى، محدقاً بعينين فارغتين تماماً، نحو فضاء أصفر