ولكن حمق أن تعيش كي تموت قبل الأوان.
لم أعرف لطبعه مثل هذا العصر من آحاد غشت الكئيب الساخن المغبر، المُسكن في مغنية العنيدة لحظة من زمنها التهريبي، المنتزع منها مكاناً له في ذاكرتها المنسية حفرا في ترابها مثل حفرة في كبد الموت قصصاً قصيرة لطوله بخضرة الصفصاف، النحيف بصلابة البلور، لحلمه بلون خزف مغنية، فأي وشم على نهدها كلمات مثل التحف المنمنمة يصقلها، كالفتلة يتقنها، كالمجبود يرصعها.
ولم أذكر له حزناً، غير حزنه حين تستعصي عليه اللغة، مثل هذا الحزن الخريفي، قبل الأوان، لاما على مغنية المطلة برأسها الملفوح بترابية التفون.
خزف كلها مغنية خزف، وعمار فيه نقش بالأزرق، كذا أرفع تيهي على كل استعارة بليدة، هو الذي استعار لها ولمسريدة والشلوح السواحلية من نغم البربريات حرفا عربياً رقصه على إيقاع جنون النثر الشعري.
نثره الموت "هي النهاية يا سيد الرجال"، وأما الشعر فما حفظته الأصوات.
غضبه الصامت غضب هذه الريح المعلن. كم ساعة كان الجسد سيتحمل تآكله القاضي إذا لم يكن من منفذ لإطلاق صرخة الغضب عبر إعادة حقنة نحو القلب، في الرئتين، وخلل الكبد؟ فمتى صار يرى أن الكلمات استنفدتها عبثية المصير، هي الوحدة الوحيدة الموحدة أن يصم الآخرون عن صوته الآتي من بقايا دمار مملكة الإنسان التي رحل إليها عمار بحلمه المتناثر بين حروف الكلمات، عشرين عاماً لصياغتها كيما تستتب محبة لقلب بلا وطن.
ليس عبثاً أن يكون قد جاء وديعاً كعصفور، هادئاً مثل ورقة خضراء، عاشقاً كما الصوفي ينقش مثل نملة له اتجاها، يرتحق كنحلة ليعمر خلية شهد، قلبي وسط ريح مغنية هذا المساء تعتصره يد من صقيع عمار الأخير، وأحسب ريح مغنية هذا المساء فقدت لها أي اتجاه، ولكن في المقبرة، حيث ثوى، تلتم معيثرة لفحات الفاجعة فيه، وفي ذهني المخلوب بتذكاراته الطفولية أقرأها حكايا تعوسج محبة ما كان لها لتظاهر، قبل الآن، جموحها.
كيف لم أقو على البوح؟ أي أنانية هي التي لا يقهرها غير الموت، أي دين، أي عبء؟
تسر إلى ريح مغنية، هذا المساء، همها بنوح، على نعشه الوحيد يصير إلى أشياء المقبرة تعمد: تلثمه، أو هي تتمسح به لتحمل بقية من رائحته نفحاً إلى الأهل العالقين صدر مغنية، توهج في أكبادهم حرقتهم عليه حتى ليجف الدمع ويحزن الحزن على نوح مغنية لانغدار فتاها فيها.
لولا القبر الفاغر لذهبت في توهي أن أزعم الوقوف على نعشه طيوراً حلت على عجل في مورد نضب ليسقط في أيديها، ولكني أرى مفجوعاً ذاك الخلق، مطبقاً بصمت تراب يغادر شرقاً، راكبين راجلين تاركين ريح مغنية، هذا المساء، وحيدة لنوحها، ملولبين بعصفها المكظوم، فإن توهى يصّعّد إلى توهمي إياهم غير مصدقين أنهم يدفنون عزيزاً جسده لم يكن بحجم ملء الشبر.
صُعد به إلى حيث مسقط رأسه كما خرجت به أمه، في ذراعيها "ذات مرة في قرية"، تنزل به المنحدر جذلة تناغيه، ولما وضع في النعش، وحمل، كاد أن ينفقد فيه أي وزن، وصارت الآلة أخف من ثقلها، لم يكن قد بقي فيه من وهران غير الأنفاس الأخيرة ليصعّدها كما أراد في مرتفع مغنية، حضن أمه الرؤوم.. وهران يا وهران، مفرا. مفرا. مفرا.
فأطفال القرى يحملون إلى قبورهم الصغيرة في صمت أبيض، فبأي شراهة امتص نسغ الحياة في جسد عمار فيهال التراب على بقية منه؟
بين لحظة مواراة الجثمان الصفصف وبين استعادة لحظة وجودي كانت فاتحة الكتاب كلها، ولا شيء بعدها غير الأحد. وحده عمار بقي، وحيداً ذهب، لعل هرعهم في أنهم إنما يعود نفر منهم بأمنية لقياه هناك، وهناك وهران المنغمسة في لذتها، المشروخة بفقرها، المشلوحة بهوانها، ولكن، الباهية بوجودها، مثل امرأة معاندة كانت استعرضت على عمار غوايتها عشرين عاماً، فلم يرض لها، وهو المفتون بسحر بحرها، كم طوقها بلغة أحرقت أصابعها فهربت منه نحو السهوب. قالت له: أرصد لك جسدي، فلتذق من فاكهتي، ولكن أخلع عنك جنونك المحرق.
قال لها: أبغي زاوية من ذاكرتك لتحفر فيها أمي وشما لا يسعه زند أبي.
وبين الجسد وبين الذاكرة ماء الأصوات يسقي عنفوان اللذة آتيا من نبع الكلمات عشرين عاماً لإنشاء المنغام تزامنه فداحة الانئكال من الأعماق، وكانت تسكن منه أزقة وهران الشاردة دوماً لحظة هجوع لتتعيش على حزنه.
فكيف لذاكرتي في هذا المساء المحتزن، لا تعود تقوى على امتحاء صورة لعمار من ذرات ما تبقى، بعضها في سيما أخيه المقعد بثقل الفاجعة، لملمة يداه، عيناه غائبتان، عن شدة يد معزية وأثر منهما وراء النظارتين، مسكونتان بهم مائل على شقاء ألقى بظله على قلبي وأوغل في الضلوع. كانت العلة استشرت في خلايا عمار، حد الإبادة، حتى لم يبق من صوته في مسمعي غير: انحبش، انحبش.
أولئك اللائي كن يلبسن الأبيض في مساء مغنية المغبر المحزن: أمه وزوجه والشقيقة، يجاهرن للمعزيات والمعزين حزناً أبيض، أبيض، أبيض، لأنه كتب الربيع والبحر.
ولكن مدى الحسرة ألا تنتحب عليه أمه جهراً أمام الرجال، وكل الألم أني صابرتها فردت نفياً برأسها المعصوب بالأبيض، زامة شفتيها الملفوحتين بلهيب الانعصاف في ابنها، لينهار تماسك الكنة فتبكي بعبرة طفلة لم يعد لها في الوجود حميم، وتولي الشقيقة نحو الداخل مبحوحة بعويل حيث أطفال ثلاثة جمد دمعا في أعينهم المفجوعة سؤال عن كل هذا الحزن المراكم الذي يشقي فرحهم في حضن جدتهم، يهول فيهم الغياب وغور الفراغ.
انحدرت في آخر مساء مغنية، ململماً قرحي، راداً علي توهي: فقدوك، لعلك فقدتهم، ويبقى الفراق نهاية أي تلاق، إلى أن يكون للكلمة بدء آخر.