لا يكاد يصدق، لقد حدث كل شيء فجأة وبدون تمهيد، مكالمة هاتفية قصيرة تتأكد من اسم ابنه الذي يخدم حديثاً كجندي احتياط في بيروت، ثم يُطلب منه بعد ذلك عنوان منزله بالتفصيل، يحاول أن يستفهم عن أسباب هذه المكالمة، وعن الجهة التي تستوضح، ولكن خط الهاتف قُطع، عندها يدرك أن أمراً خطيراً قد وقع، وأن ابنه أحمد قد أصيب بمكروه. صحيح أنه لم يمضِ على ذهاب أحمد سوى بضعة أيام، ولكن المعارك طاحنة في بيروت والحصار حولها يشتد يوماً بعد يوم، لا يستطيع الجلوس، يود من أعماقه أن تكون أم أحمد إلى جانبه الآن، لكنها بعد يومين من مغادرة ابنها سافرت إلى بيت أهلها في دمشق، علها تهرب من مشاعر القلق والخوف التي انتابتها منذ مغادرة أحمد البيت، اصطحبت معها ابنتها وولدها الثاني وتركته وحيداً. قالت له قبل سفرها ودموعها تغسل وجهها:
"إن قلبك من حجر، لا يهمك غياب أحمد ووجوده في بيروت المحاصرة، لم تذرف دمعة واحدة على فراقه، كأن كل شيء من حولك طبيعي وعادي". لم يجبها، كان يقدر ظروفها، وهي في كل الأحوال امرأة.
الرجال لا يبكون، قد يتألمون، يقتلهم الانفعال، يفتتهم الأسى ولكنهم لا يبكون، هكذا علمه أبوه.
لا يذكر أنه ذرف دمعة واحدة طيلة حياته، كانت بعض المواقف مؤثرة للغاية، وكانت تمور في أعمق أعماقه انفعالات تدفعه للبكاء والعويل، لكنه كان يبذل جهوداً خارقة لكبتها ولجمها. ينتقل في غرف البيت كالمحكوم بالإعدام قبيل تنفيذ الحكم، وتختلط في ذهنه شتى الاحتمالات والعديد من الصور، لقد هزته هذه المكالمة هزاً عنيفاً، ولا بد من القيام بعمل ما لمعرفة ما حدث. لم تمر سوى دقائق معدودة حتى قرع باب الدار، ينطلق كالسهم، يفتح الباب، يصعقه المنظر، أربعة جنود يحملون تابوتاً ملفوفاً بعلم البلاد، يتسمر في مكانه، يدخلون التابوت ويقدمون له العزاء، يعجز عن الرد، أحدهم يقبله والدموع تتقاطر في عينيه، وآخر يقول: "لقد استشهد أحمد، وهو يقاتل قتالاً ضارياً، مات ميتة الرجال". غادروا الدار وأغلقوا الباب من ورائهم، بقي والتابوت وحيدين في الدار التي خيم عليها صمت مميت.
لقد استشهد أحمد إذن، يحس بدوار شديد وخدر يبلد مشاعره، يجثو بجانب التابوت، يرفع غطاءه، ألواح الجليد على الجثمان، تمتد يدان معروقتان مرتجفتان باتجاه الوجه، وتشخص عيناه وهو يحاول رفع الكفن عن الوجه، ينجح، ويطل وجه أحمد، شعره ووجهه مرطبان بماء الجليد، عيونه مغمضة ولونه أصفر فاقع. يحس باحتراق في أحشائه يصل حنجرته، ويسمع بوضوح جريان الدم في عروقه. يمط رقبته لتقبيل أحمد، يغمر الوجه بالقبلات وتتغلغل يداه في الشعر الأسود، ثم يرفع رأسه وعيناه لا تفارقان قسمات الوجه.
الرجال لا يبكون، يتألمون، يقتلهم الانفعال، يفتتهم الأسى، ولكنهم لا يبكون.
يقفز كالملسوع، لا بد من إبلاغ أم أحمد، ولكن كيف؟
أيقول لها تعالي بسرعة، فقد جاء أحمد في إجازة قصيرة؟ لا، إن هذه الكذبة قد تحطمها نهائياً، إذ كان أحمد وحيدها لفترة طويلة، سيقول لها إن أحمد وصل مجروحاً جرحاً بسيطاً، لكن ما الفرق بين الكذبة الأولى والثانية، عيناه لا تفارقان وجه أحمد، يود لو يحتضنه آلاف المرات، وأن يضع كل جليد العالم في جوفه الوالع.
يمسك سماعة الهاتف القريب من التابوت، ويقرر أن يقول لها: أُصيب أحمد بجرح خطير، وسيصل اليوم. يستجمع كل قواه في عينيه كي لا يخطئ الأرقام، يلقط الخط بعد محاولات، يبدأ الرنين المتقطع، يتذكر كيف عليه أن ينطق الكلمة الأولى وما هي؟ يتواصل الرنين ويزداد ارتباكاً ويكاد أن ينهار، ثم يُفتح الخط ويسمع صوت أم أحمد واهناً ضعيفاً، يا للصدمة أم أحمد على الخط، آلو تكررها مرات عديدة، يحاول أن يتماسك، يستنفر كل قواه ويجيبها بصوت مفجوع نعم، ثم يصمت، تهاجمه نوبة انفعال حادة ويفقد توازنه ولا يسمع إلا صوتاً مخنوقاً وكأنه في كابوس، هل أصيب أحمد؟ هل مات أحمد؟ أجبني أرجوك، فينفجر في نشيج ويبكي كالأطفال الذين فقدوا أمهاتهم فجأة في مكان موحش، وتسقط السماعة من يده ويقع على الأرض فاقد الوعي