استوقفني شاب مسلم اسمه عبد الله يرتفع الآذان وتقام الصلاة بجواره وهو غير عابئ بذلك النداء وكأنه موجه لغيره من أصحاب الديانات الأخرى وأطلقت بصري فإذا شاب آخر اسمه عبد الله وهو يهز رأسه طرباً ويهتز لحمه وعظمه على أنغام أصوات مغنٍ غربي! وقلبت إحدى المجلات فإذا بمن اسمه عبد الله وهوايته الرقص والموسيقى! وشرقت وغربت.. وتأملت فإذا الأمر أعظم من ذلك؟
عندها انطلقت استحث الخطا وأسابق الركب عبر أربعة عشر قرناً لأرى حال من كان اسمه عبد الله! فإذا أمة من الناس رفعوا للأمة رأساً وأعلوا للدين مناراً، ولا يزال التاريخ يردد جهادهم وصبرهم على صغر سن فيهم وحداثة دين منهم! لكن نتوقف مع شخص مرت به أحداث خطيرة ومواقف عظيمة وقابل رؤساء أعظم دول عصره، استقبله كسرى ملك الفرس وقيصر عظيم الروم وهو الرجل العربي الذي لا تهمه البرتوكولات ولا التقاليد الرسمية.. لا يعرف إلا شمساً محرقة وسماء صافية وخباءٍ في ظل شجرة يحوي كسرة خبز!
أقبل ميمماً وجهه نحو إيوان كسرى وملك قيصر ففُتحت له الكنوز والخزائن! وألقت إليه الحضارة في حينه بركابها لكنه أبى أن يمتطيها وأعرض عن زينتها.. قاسمة كسرى ملكه الواسع وغناه الفاحش لكنه رفض! قدم له ابنته الفاتنة لكنه أشاح بوجهه وأبى! نعم رفض تمييع دينه وأبى ترك ملته وجانب الدنيا.. مؤمنٌ يستشرف الجنة ويسعى إلى نيلها! لننطلق نرى ما يقوله أصحاب السير عن هذا الرجل الفذ!
مع إقامة الدولة الإسلامية في المدينة ولرغبة إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ولتبليغ هذا الدين إلى أقصى الأرض.. في السنة التاسعة عشرة للهجرة بعث عمر بن الخطاب جيشاً لحرب الروم فيه وجوه الأمة ورجالها. وقد أفزع قيصر عظيم الروم هذا الزحف القادم من صحراء جزيرة العرب القاحلة وناله الرعب واستولى على قلبه الهلع. فأمر رجاله إذا ظفروا بأسير من أسرى المسلمين أن يأتوا به إليه ليرى حالهم ويسمع من أفواههم.. وكان ذلك الأسير الذي أخذ إلى ملك الروم هو عبد الله بن حذافة رضي الله عنه!.. لم يكن قيصر إلا رجلاً داهية وسياسياً محنكاً يعرف مواطن الضعف عند الرجال ويعلم محبة النفوس للدنيا.. تأمل قيصر في طلعة عبد الله بن حذافة وصلابة عوده وقوة شكيمته فبادره قائلاً: إني أعرض عليك أمراً.. أعرض عليك أن تتنصر فإن فعلت خليت سبيلك وأكرمت مثواك!
إنه عرض مغر لأسير ينتظر الموت لكن القلوب تختلف والرجال تتباين.. كان الرد الفوري والحازم ممن عمر الإيمان قلبه: هيهات هيهات.. إن الموت لأحب إليَّ ألف مرة مما تدعوني إليه!
تعجب قيصر وأعاد الكرة مرة أخرى بعرض آخر يسيل له لعاب الكثير.. قال له: إني لأرى فيك صفات الرجل الشهم العاقل.. فأجبني إلى ما أعرضه عليك.. فإن أجبتني أشركتك في ملكي وقاسمتك سلطاني! تعال أيها العربي - الذي أحرقت الشمس وجهه - أقاسمك مملكة الروم العظيمة وأزوجك ابنة سيد الروم الجميلة!
عروض متتالية لرجل فقير مسكين رث الثياب مُجهد الخطوات.. لا يملك حفنة من الأرض مقيد بالسلاسل ومكبل بالقيود والموت يحوم فوق رأسه! فماذا كان جوابه في تلك اللحظات الفاصلة في حياته!
قال عبد الله بن حذافة بثقة المؤمن بربه الراغب فيما عنده: والله لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما فعلت! نعم ليس ملكك فحسب.. وليس تنصراً مستمراً.. بل رجوع طرفة عين ما فعلت!
رأي قيصر أن هذا المؤمن لا تلين له قناة ولن تنفع معه وسائل الإغراء وطرق الترغيب.. فهب واقفاً وهو يصرخ متهدداً متوعداً: إذا أقتلك! قال ذلك والجلاد على رأس عبد الله والسيف مجرد من غمده.. وانتظر قيصر الجواب من عبد الله فإذا به يأتي كالسهم محمل بالإيمان والثبات: أفعل ما بدا لك!
فأمر به فصُلب وقال لقناصته: ارموه قريباً من يديه وهو يعرض عليه التنصر! ولكن عبد الله والسهام تتخطفه أبى! فقال: ارموه قريباً من رجليه وهو يعرض عليه مفارقة دينه فأبى!
عندها دعا قيصر بقدر عظيم فصب فيه الزيت ورفعه على النار حتى غلى الزيت وارتفع صوته وعبد الله ينظر ثم أتي بأسير من أسارى المسلمين، فأمر به أن يُلقى فيها فألقي أمام عين عبد الله.. فإذا لحمه يتفتت وينسلخ ويظهر عظمه..
عند هذا المنظر الرهيب والموقف العصيب التفت قيصر إلى عبد الله بن حذافة ودعاه إلى النصرانية والأحداث متسارعة والقدر تغلي.. لكن عبد الله كان أشد إباء لها من قبل فلم تلّن له قناة ولم تفت منه عضد!
زاد حنق قيصر.. وقال ما هذا الرجل الذي أمامي أعرض عليه ملكي وابنتي فيرفض وأعرض بين يديه النار والقدر تغلي زيتاً فيأبى.. عندها أمر رجاله وقد تطاير الشرر من عينه: هيا ألقوا به مثل صاحبيه!
حُمل عبد الله على عجل وارتفعت الأيدي لتلقي به في القدر.. فأبصر أحد رجال قيصر منه دمعة تحدرت.. فقال لقيصر فرحاً بالانتصار: لقد بكى! وظن أنه قد جزع من ما يرى من الأهوال والشدائد ورضي بالعروض المقدمة إليه، فقال قيصر: ردوه عليَّ!
فملما ردوه إليه ومثل أمامه عرض عليه النصرانية فرفضها. فقال له متعجباً: ويحك ماذا أبكاك!
قال عبد الله بن حذافة رضي الله عنه: أبكاني أني قلت في نفسي: تُلقى الآن في هذه القدر فتذهب نفسك، وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر أنُفس فتُلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله.
فتعجب الطاغية الظالم وقال: هل لك أن تُقبل رأسي وأطلق سراحك. فقال عبد الله وهو يرى أمة من المسلمين في الأسر: وعن جميع أسارى المسلمين كلهم!
وافق القيصر وعبد الله يقول في نفسه: أتى الفرج لهؤلاء الأسرى.. نعم أقبل رأس الظالم ويطلق أسارى المسلمين..
دنا بعزة وهيبة وقبل رأس قيصر!
وعندما وطأت قدما عبد الله بن حذافة المدينة النبوية كان الخبر قد سبقه إلى أهلها.. قال له عمر بن الخطاب وهو فرح مسرور بثبات عبد الله وقوة إيمانه: حقُّ على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ بذلك! فقام وقبل رأس عبد الله بن حذافة رضي الله عنه.
يا عبد الله - هذا الزمن - دعنا نقبل رأسك وانطلق إلى المسجد مصلياً.. دعنا نقبل رأسك وكن ثابت الإيمان قوي الرسوخ! يا عبد الله دعنا نقبل رأسك وفك أسرك من رق الشهوات ومواطن الريب والخنا. دعنا نقبل رأسك مرات ومرات ولا تكن إمعة يسيرك الأعداء حيث شاءوا وهو ما نراه في مظهرك ومخبرك!