ونحنهنا - في ظلال القرآن - لا نستقصي كل عيوب النظام الربوي فهذا مجاله بحثمستقل - فنكتفيبهذاالقدر لنخلص منه إلى تنبيه من يريدون أنيكونوامسلمين إلى جملة حقائق أساسية بصدد كراهية الإسلام للنظام الربوي المقيت:
الحقيقةالأولى:- التي يجب أن تكون مستيقنة في نفوسهم - أنه لا إسلام مع قيامنظامربوي في مكان . وكل ما يمكن أن يقوله أصحاب الفتاوي من رجال الدين أو غيرهمسوىهذا دجل وخداع . فأساس التصور الإسلامي - كما بينا - يصطدم اصطداما مباشرابالنظامالربوي , ونتائجه العملية في حياة الناس وتصوراتهم وأخلاقهم .
والحقيقةالثانية:أن النظام الربوي بلاء على الإنسانية - لا في إيمانها وأخلاقهاوتصورهاللحياة فحسب - بل كذلك في صميم حياتها الاقتصادية والعملية , وأنه أبشعنظاميمحق سعادة البشرية محقا , ويعطل نموها الإنساني المتوازن , على الرغم منالطلاءالظاهري الخداع , الذي يبدو كأنه مساعدة من هذا النظام للنمو الاقتصاديالعام !
والحقيقةالثالثة:أن النظام الأخلاقي والنظام العملي في الإسلام مترابطان تماما , وأن الإنسان في كل تصرفاته مرتبط بعهد الاستخلاف وشرطه , وأنه مختبر ومبتلىوممتحنفي كل نشاط يقوم به في حياته , ومحاسب عليه في آخرته . فليس هناك نظامأخلاقيوحده ونظام عملي وحده , وإنما هما معا يؤلفان نشاط الإنسان , وكلاهما عبادةيؤجرعليها إن أحسن , وإثم يؤاخذ عليه إن أساء . وأن الاقتصاد الإسلامي الناجح لايقومبغير أخلاق , وأن الأخلاق ليست نافذة يمكن الاستغناء عنها ثم تنجح حياة الناسالعملية .
والحقيقةالرابعة:أن التعامل الربوي لا يمكن إلا أن يفسد ضمير الفرد وخلقه ,وشعورهتجاه أخيه في الجماعة ; وإلا أن يفسد حياة الجماعة البشرية وتضامنها بمايبثهمن روح الشره والطمع والأثرة والمخاتلة والمقامرة بصفة عامة . أما في العصرالحديثفإنه يعد الدافع الأول لتوجيه رأس المال إلى أحط وجوه الاستثمار . كي يستطيعرأسالمال المستدان بالربا أن يربح ربحا مضمونا , فيؤدي الفائدة الربوية ويفضل منهشيءللمستدين . ومن ثم فهو الدافع المباشر لاستثمار المال في الأفلام القذرةوالصحافةالقذرة والمراقص والملاهي والرقيق الأبيض وسائر الحرف والاتجاهات التيتحطمأخلاق البشرية تحطيما . . والمال المستدان بالربا ليس همه أن ينشىء أنفعالمشروعاتللبشرية ; بل همه أن ينشىء أكثرها ربحا . ولو كان الربح أتما يجيء مناستثارةأحط الغرائز وأقذر الميول . . وهذا هو المشاهد اليوم في أنحاء الأرض .وسببهالأول هو التعامل الربوي !
والحقيقةالخامسة:أن الإسلام نظام متكامل . فهو حين يحرم التعامل الربوي يقيمنظمهكلها على أساس الاستغناء عن الحاجة إليه ; ونظم جوانب الحياة الاجتماعية بحيثتنتفيمنها الحاجة إلى هذا النوع من التعامل , بدون مساس بالنمو الاقتصاديوالاجتماعيوالإنساني المطرد .
والحقيقةالسادسة:أن الإسلام - حين يتاح له أن ينظم الحياة وفق تصوره ومنهجهالخاص - لن يحتاج عند إلغاء التعامل الربوي , إلى إلغاء المؤسسات والأجهزة اللازمةلنموالحياة الاقتصادية العصرية نموها الطبيعي السليم . ولكنه فقط سيطهرها من لوثةالرباودنسه . ثم يتركها تعمل وفق قواعد أخرى سليمة . وفي أول هذه المؤسساتوالأجهزة:المصارف والشركات وما إليها من مؤسسات الاقتصاد الحديث .
والحقيقةالسابعة:- وهي الأهم - ضرورة اعتقاد من يريد أن يكون مسلما , بأن هناكاستحالةاعتقاديةفيأن يحرم الله أمرا لا تقوم الحياة البشريةولاتتقدم بدونه ! كما أن هناك استحالة اعتقادية كذلك في أن يكون هناك أمر خبيثويكونفي الوقت ذاته حتميا لقيام الحياة وتقدمها . . فالله سبحانه هو خالق هذهالحياة , وهو مستخلف الإنسان فيها ; وهو الأمر بتنميتها وترقيتها ; وهو المريد لهذاكلهالموفق إليه . فهناك استحالة إذن في تصور المسلم أن يكون فيما حرمه الله شيء لاتقومالحياة البشرية ولا تتقدم بدونه . وأن يكون هناك شيء خبيث هو حتمي لقيامالحياةورقيها . وإنما هو سوء التصور . وسوء الفهم والدعاية المسمومة الخبيثةالطاغيةالتي دأبت أجيالا على بث فكرة:أن الربا ضرورة للنمو الاقتصادي والعمراني ,وأنالنظام الربوي هو النظام الطبيعي . وبث هذا التصور الخادع في مناهل الثقافةالعامة , ومنابع المعرفة الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها . ثم قيام الحياةالحديثةعلى هذا الأساس فعلا بسعي بيوت المال والمرابين . وصعوبة تصور قيامها علىأساسآخر . وهي صعوبة تنشأ أولا من عدم الإيمان . كما تنشأ ثانيا من ضعف التفكيروعجزهعن التحرر من ذلك الوهم الذي اجتهد المرابون في بثه وتمكينه لما لهم من قدرةعلىالتوجيه , وملكية للنفوذ داخل الحكومات العالمية , وملكية لأدوات الإعلامالعامةوالخاصة .
والحقيقةالثامنة:إن استحالة قيام الاقتصاد العالمي اليوم وغدا على أساس غيرالأساسالربوي . . ليست سوى خرافة . أو هي أكذوبة ضخمة تعيش لأن الأجهزة التييستخدمهاأصحاب المصلحة في بقائها أجهزة ضخمة فعلا ! وأنه حين تصح النية , وتعزمالبشرية - أو تعزم الأمة المسلمة - أن تسترد حريتها من قبضة العصابات الربويةالعالمية , وتريد لنفسها الخير والسعادة والبركة مع نظافة الخلق وطهارة المجتمع ,فإنالمجال مفتوح لإقامة النظام الآخر الرشيد , الذي إراده الله للبشرية , والذيطبقفعلا , ونمت الحياة في ظله فعلا ; وما تزال قابلة للنمو تحت أشرافه وفي ظلاله ,لوعقل الناس ورشدوا !
وليسهناك مجال تفصيل القول في كيفيات التطبيق ووسائله . . فحسبنا هذه الإشاراتالمجملة . وقد تبين أن شناعة العملية الربوية ليست ضرورة من ضرورات الحياةالاقتصادية ; وأن الإنسانية التي انحرفت عن النهج قديما حتى ردها الإسلام إليه ; هيالإنسانيةالتي تنحرف اليوم الانحراف ذاته , ولا تفيء إلى النهج القويم الرحيمالسليم .
فلننظركيف كانت ثورة الإسلام على تلك الشناعة التي ذاقت منها البشرية ما لم تذققطمن بلاء:
الدرسالأول:275 - 276 حرمة الربا وتصوير حالة المرابين
(الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس . ذلكبأنهمقالوا:إنما البيع مثل الربا . وأحل الله البيع وحرم الربا . فمن جاءه موعظةمنربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله . ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيهاخالدون . يمحق الله الربا ويربي الصدقات . والله لا يحب كل كفار أثيم). .
إنهاالحملة المفزعة , والتصوير المرعب:
(لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس). .
وماكان أي تهديد معنوي ليبلغ إلى الحس ما تبلغه هذه الصورة المجسمة الحيةالمتحركة . . صورة الممسوسالمصروع . . وهي صورة معروفة معهودة للناس .فالنصيستحضرها لتؤدي دورها الإيحائي في إفزاع الحس , لاستجاشة مشاعر المرابين ,وهزهاهزة عنيفة تخرجهم من مألوف عادتهم في نظامهم الاقتصادي ; ومن حرصهم على مايحققهلهم من الفائدة . . وهي وسيلة في التأثير التربوي ناجعة في مواضعها . بينماهيفي الوقت ذاته تعبر عن حقيقة واقعة . . ولقد مضت معظم التفاسير على أن المقصودبالقيامفي هذه الصورة المفزعة , هو القيام يوم البعث . ولكن هذه الصورة - فيما نرى - واقعة بذاتها في حياة البشرية في هذه الأرض أيضا . ثم إنها تتفق مع ما سيأتيبعدهامن الإنذار بحرب من الله ورسوله . ونحن نرى أن هذه الحرب واقعة وقائمة الآنومسلطةعلى البشرية الضالة التي تتخبط كالممسوس في عقابيل النظام الربوي . وقبل أننفصلالقول في مصداق هذه الحقيقة من واقع البشرية اليوم نبدأ بعرض الصورة الربويةالتيكان يواجهها القرآن في الجزيرة العربية ; وتصورات أهل الجاهلية عنها . .
إنالربا الذي كان معروفا في الجاهلية والذي نزلت هذه الآيات وغيرها لإبطالهابتداءكانت له صورتان رئيسيتان:ربا النسيئة . وربا الفضل .
فأماربا النسيئة فقد قال عنه قتادة:" إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلىأجلمسمى , فإذا حل الأجل , ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه " .
وقالمجاهد " كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين , فيقول:لك كذا وكذاوتؤخرعني فيؤخر عنه " .
وقالأبو بكر الجصاص:" إنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادةمشروطة . فكانت الزيادة بدلا من الأجل . فأبطله الله تعالى " . .
وقالالإمام الرازي في تفسيره:" إن ربا النسيئة هو الذي كان مشهورا في الجاهلية . لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل , على أن يأخذ منه كل شهر قدرامعينا , ورأس المال باق بحاله . فإذا حل طالبه برأس ماله . فإن تعذر عليه الأداءزادهفي الحق والأجل " .
وقدورد في حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أن النبي [ ص ] قال:" لا رباإلافي النسيئة " . .
أماربا الفضل فهو أن يبيع الرجل الشيء بالشيء من نوعه مع زيادة . كبيع الذهببالذهب . والدراهم بالدراهم . والقمح بالقمح . والشعير بالشعير . . وهكذا . . وقدألحقهذا النوع بالربا لما فيه من شبه به ; ولما يصاحبه من مشاعر مشابهة للمشاعرالمصاحبةلعملية الربا . . وهذه النقطة شديدة الأهمية لنا في الكلام عن العملياتالحاضرة !
عنأبي سعيد الخدري قال:قال رسول الله [ ص ] " الذهب بالذهب والفضة بالفضة ,والبربالبر , والشعير بالشعير , والتمر بالتمر , والملح بالملح . . مثلا بمثل . .يدابيد . . فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء " . .
وعنأبي سعيد الخدري أيضا قال:جاء بلال إلىالنبي [ ص ] بتمر برني فقال له النبي [ ص ] " من أين هذا ? " قال:كان عندنا تمررديءفبعت منه صاعين بصاع . فقال:" أوه ! عين الربا . عين الربا . لا تفعل . ولكنإذاأردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر , ثم اشتر به " .
فأماالنوع الأول فالربا ظاهر فيه لا يحتاج إلى بيان , إذ تتوافر فيه العناصرالأساسيةلكل عملية ربوية . وهي:الزيادة على أصل المال . والأجل الذي من أجله تؤدىهذهالزيادة . وكون هذه الفائدة شرطا مضمونا في التعاقد . أي ولادة المال للمالبسببالمدة ليس إلا . .
وأماالنوع الثاني , فما لا شك فيه أن هناك فروقا أساسية في الشيئين المتماثلينهيالتي تقتضي الزيادة . وذلك واضح في حادثة بلال حين أعطى صاعين من تمره الرديءوأخذصاعا من التمر الجيد . . ولكن لأن تماثل النوعين في الجنس يخلق شبهة أن هناكعمليةربوية , إذ يلد التمر التمر ! فقد وصفه [ ص ] بالربا . ونهى عنه . وأمر ببيعالصنفالمراد استبداله بالنقد . ثم شراء الصنف المطلوب بالنقد أيضا . إبعادا لشبحالربامن العملية تماما !
وكذلكشرط القبض:"يدا بيد" . . كي لا يكون التأجيل في بيع المثل بالمثل , ولو منغيرزيادة , فيه شبح من الربا , وعنصر من عناصره !
إلىهذا الحد بلغت حساسية الرسول [ ص ] بشبح الربا في أية عملية . وبلغت كذلكحكمتهفي علاج عقلية الربا التي كانت سائدة في الجاهلية .
فأمااليوم فيريد بعض المهزومين أمام التصورات الرأسمالية الغربية والنظمالرأسماليةالغربية أن يقصروا التحريم على صورة واحدة من صور الربا - ربا النسيئة -بالاستنادإلى حديث أسامة , وإلى وصف السلف للعمليات الربوية في الجاهلية . وأنيحلوا - دينيا - وباسم الإسلام ! - الصور الأخرى المستحدثة التي لا تنطبق في حرفيةمنهاعلى ربا الجاهلية !
ولكنهذه المحاولة لا تزيد على أن تكون ظاهرة من ظواهر الهزيمة الروحية والعقلية . . فالإسلام ليس نظام شكليات . إنما هو نظام يقوم على تصور أصيل . فهو حين حرمالربالم يكن يحرم صورة منه دون صورة . إنما كان يناهض تصورا يخالف تصوره ; ويحاربعقليةلا تتمشى مع عقليته . وكان شديد الحساسية في هذا إلى حد تحريم ربا الفضلإبعادالشبح العقلية الربوية والمشاعر الربوية من بعيد جدا !
ومنثم فإن كل عملية ربوية حرام . سواء جاءت في الصور التي عرفتها الجاهلية أماستحدثتلها أشكال جديدة . ما دامت تتضمن العناصر الأساسية للعملية الربوية , أوتتسمبسمة العقلية الربوية . . وهي عقلية الأثرة والجشع والفردية والمقامرة . وماداميتلبس بها ذلك الشعور الخبيث . شعور الحصول على الربح بأية وسيلة !
فينبغيأن نعرف هذه الحقيقة جيدا . ونستيقن من الحرب المعلنة من الله ورسوله علىالمجتمعالربوي .
(الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس). .
والذينيأكلون الربا ليسوا هم الذين يأخذون الفائدة الربوية وحدهم - وإن كانواهمأول المهددين بهذا النص الرعيب - إنما هم أهل المجتمع الربوي كلهم .
عنجابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال:لعن رسول الله [ ص ] آكل الرباوموكله , وشاهديه وكاتبه , وقال:" هم سواء " . .
وكانهذا في العمليات الربوية الفردية . فأما في المجتمع الذي يقوم كله علىالأساسالربوي فأهله كلهم ملعونون . معرضون لحرب الله . مطرودون من رحمته بلا جدال .
إنهملا يقومون في الحياة ولا يتحركون إلا حركة الممسوس المضطرب القلق المتخبطالذيلا ينال استقرارا ولا طمأنينة ولا راحة . . وإذا كان هناك شك في الماضي أيامنشأةالنظام الرأسمالي الحديث في القرون الأربعة الماضية , فإن تجربة هذه القرون لاتبقيمجالا للشك أبدا . .
إنالعالم الذي نعيش فيه اليوم - في أنحاء الأرض - هو عالم القلق والاضطرابوالخوف ; والأمراض العصبية والنفسية - باعتراف عقلاء أهله ومفكريه وعلمائه ودارسيه , وبمشاهدات المراقبين والزائرين العابرين لأقطار الحضارة الغربية . . وذلك علىالرغممن كل ما بلغته الحضارة المادية , والإنتاج الصناعي في مجموعه من الضخامة فيهذهالأقطار . وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي التي تأخذ بالأبصار . . ثم هوعالمالحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة , وحرب الأعصاب , والاضطراباتالتيلا تنقطع هنا وهناك !
إنهاالشقوة البائسة المنكودة , التي لا تزيلها الحضارة المادية , ولا الرخاءالمادي , ولا يسر الحياة المادية وخفضها ولينها في بقاع كثيرة . وما قيمة هذا كلهإذالم ينشىء في النفوس السعادة والرضى والاستقرار والطمأنينة ?
إنهاحقيقة تواجه من يريد أن يرى ; ولا يضع على عينيه غشاوة من صنع نفسه كي لايرى ! حقيقة أن الناس في أكثر بلاد الأرض رخاء عاما . . في أمريكا , وفي السويد ,وفيغيرهما من الأقطار التي تفيض رخاء ماديا . . إن الناس ليسوا سعداء . . أنهمقلقونيطل القلق من عيونهم وهم أغنياء ! وأن الملل يأكل حياتهم وهم مستغرقون فيالإنتاج ! وأنهم يغرقون هذا الملل في العربدة والصخب تارة . وفي "التقاليع" الغريبةالشاذةتارة . وفي الشذوذ الجنسي والنفسي تارة . ثم يحسون بالحاجة إلى الهرب .الهربمن أنفسهم . ومن الخواء الذي يعشش فيها ! ومن الشقاء الذي ليس له سبب ظاهر منمرافقالحياة وجريانها . فيهربون بالانتحار . ويهربون بالجنون . ويهربون بالشذوذ !ثميطاردهم شبح القلق والخواء والفراغ ولا يدعهم يستريحون أبدا ! لماذا ?
السببالرئيسي طبعا هو خواء هذه الأرواح البشرية الهائمة المعذبة الضالةالمنكودة - على كل ما لديها من الرخاء المادي - من زاد الروح . . من الإيمان . . منالاطمئنانإلى الله . . وخواؤها من الأهداف الإنسانية الكبيرة التي ينشئها ويرسمهاالإيمانبالله , وخلافة الأرض وفق عهده وشرطه .
ويتفرعمن ذلك السبب الرئيسي الكبير . . بلاء الربا . . بلاء الاقتصاد الذي ينموولكنهلا ينمو سويا معتدلا بحيث تتوزع خيرات نموه وبركاتها على البشرية كلها . إنماينمومائلا جانحا إلى حفنة الممولين المرابين , القابعين وراء المكاتب الضخمة فيالمصارف , يقرضون الصناعة والتجارة بالفائدة المحددة المضمونة ; ويجبرون الصناعةوالتجارةعلى أن تسير في طريق معين ليس هدفه الأول سد مصالح البشر وحاجاتهم التييسعدبهاالجميع ; والتي تكفل عملا منتظما ورزقا مضموناللجميع ; والتي تهيء طمأنينة نفسية وضمانات اجتماعية للجميع . . ولكن هدفه هو انتاجمايحقق أعلى قدر من الربح - ولو حطم الملايين وحرم الملايين وأفسد حياة الملايين ,وزرعالشك والقلق والخوف في حياة البشرية جميعا !
وصدقالله العظيم: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطهالشيطانمن المس). . وها نحن أولاء نرى مصداق هذه الحقيقة في واقعنا العالمي اليوم !
ولقداعترض المرابون في عهد رسول الله [ ص ] على تحريم الربا . اعترضوا بأنه ليسهناكمبرر لتحريم العمليات الربوية وتحليل العمليات التجارية:
(ذلك بأنهم قالوا:إنما البيع مثل الربا . وأحل الله البيع وحرم الربا). .
وكانتالشبهة التي ركنوا إليها , هي أن البيع يحقق فائدة وربحا , كما أن الربايحققفائدة وربحا . . وهي شبهة واهية . فالعمليات التجاريةقابلة للربح وللخسارة .والمهارةالشخصية والجهد الشخصي والظروف الطبيعية الجارية في الحياة هي التي تتحكمفيالربح والخسارة . أما العمليات الربوية فهي محددة الربح في كل حالة . وهذا هوالفارقالرئيسي . وهذا هو مناط التحريم والتحليل . .
إنكل عملية يضمن فيها الربح على أي وضع هي عملية ربوية محرمة بسبب ضمان الربحوتحديده . . ولا مجال للمماحلة في هذا ولا للمداورة !
(وأحل الله البيع وحرم الربا). . .
لانتفاءهذا العنصر من البيع ; ولأسباب أخرى كثيرة تجعل عمليات التجارة في أصلهانافعةللحياة البشرية ; وعمليات الربا في أصلها مفسدة للحياة البشرية . .
وقدعالج الإسلام الأوضاع التي كانت حاضرة في ذلك الزمان معالجة واقعية ; دون أنيحدثهزة اقتصادية واجتماعية:
(فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله). .
لقدجعل سريان نظامه منذ ابتداء تشريعه . فمن سمع موعظة ربه فانتهى فلا يستردمنهما سلف أن أخذه من الربا وأمره فيه إلى الله , يحكم فيه بما يراه . . وهذاالتعبيريوحي للقلب بأن النجاة من سالف هذا الإثم مرهونة بإرادة الله ورحمته ; فيظليتوجسمن الأمر ; حتى يقول لنفسه:كفاني هذا الرصيد من العمل السيىء , ولعل الله أنيعفينيمن جرائره إذا أنا انتهيت وتبت . فلا أضف إليه جديدا بعد ! . . وهكذا يعالجالقرآنمشاعر القلوب بهذا المنهج الفريد .
(ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). .
وهذاالتهديد بحقيقة العذاب في الآخرة يقوي ملامح المنهج التربوي الذي أشرناإليه , ويعمقه في القلوب ;
ولكنلعل كثيرين يغريهم طول الأمد , وجهل الموعد , فيبعدون من حسابهم حسابالآخرةهذا ! فها هو ذا القرآن ينذرهم كذلك بالمحق في الدنيا والآخرة جميعا , ويقررأنالصدقات - لا الربا - هي التي تربو وتزكو ; ثم يصم الذين لا يستجيبون بالكفروالإثم . ويلوح لهم بكره الله للكفرة الآثمين:
يَمْحَقُاللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّكَفَّارٍأَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِوَأَقَامُواْالصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْوَلاَخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
(يمحق الله الربا , ويربي الصدقات , والله لا يحب كل كفار أثيم). .
وصدقوعيد الله ووعده . فها نحن أولاء نرى أنه ما من مجتمع يتعامل بالربا ثمتبقىفيه بركة أو رخاء أو سعادة أو أمن أو طمأنينة . . إن الله يمحق الربا فلا يفيضعلىالمجتمع الذي يوجد فيه هذا الدنس إلا القحط والشقاء . وقد ترى العين - في ظاهرالأمر - رخاء وإنتاجا وموارد موفورة , ولكن البركة ليست بضخامة الموارد بقدر ما هيفيالاستمتاع الطيب الآمن بهذه الموارد . وقد أشرنا من قبل إلى الشقوة النكدة التيترينعلى قلوب الناس في الدول الغنية الغزيرة الموارد ; وإلى القلق النفسي الذي لايدفعهالثراء بل يزيده . ومن هذه الدول يفيض القلق والذعر والاضطراب على العالم كلهاليوم . حيث تعيش البشرية في تهديد دائم بالحرب المبيدة ; كما تصحو وتنام في همالحربالباردة ! وتثقل الحياة على أعصاب الناس يوما بعد يوم - سواء شعروا بهذا أملميشعروا - ولا يبارك لهم في مال ولا في عمر ولا في صحة ولا في طمأنينة بال !
ومامن مجتمع قام على التكافل والتعاون - الممثلين في الصدقات المفروض منهاوالمتروكللتطوع - وسادته روح المودة والحب والرضى والسماحة , والتطلع دائما إلىفضلالله وثوابه , والاطمئنان دائما إلى عونه وإخلافه للصدقة بأضعافها . . ما منمجتمعقام على هذا الأساس إلا بارك الله لأهله - أفرادا وجماعات - في ما لهم ورزقهم , وفي صحتهم وقوتهم وفي طمأنينة قلوبهم وراحة بالهم .
والذينلا يرون هذه الحقيقة في واقع البشرية , هم الذين لا يريدون أن يروا , لأنلهمهوى في عدم الرؤية ! أو الذين رانت على أعينهم غشاوة الأضاليل المبثوثة عمداوقصدامن أصحاب المصلحة في قيام النظام الربوي المقيت ; فضغطوا عن رؤية الحقيقة !
(والله لا يحب كل كفار أثيم). .
وهذاالتعقيب هنا قاطع في اعتبار من يصرون على التعامل الربوي - بعد تحريمه - منالكفارالآثمين , الذين لا يحبهم الله . وما من شك أن الذين يحلون ما حرم اللهينطبقعليهم وصف الكفر والإثم , ولو قالوا بألسنتهم ألف مرة:لا إله إلا الله . محمدرسولالله . فالإسلام ليس كلمة باللسان ; إنما هو نظام حياة ومنهج عمل ; وإنكار جزءمنهكإنكار الكل . . وليس في حرمة الربا شبهة ; وليس في اعتباره حلالا وإقامةالحياةعلى أساسه إلا الكفر والإثم . . والعياذ بالله